لا يمكن للإنسان الحر أن يعيش داخل مجتمعه جسدياً، ويكون منفصلاً عنه فكرياً، فالصوت الأصيل يفرض نفسه، حيث تهوي إليه أفئدة المؤمنين، وتحديداً عندما تكون الظروف والأوضاع متهيئة، لأن يلعب الدور الذي إختاره البارئ عز وجل له.
الإمام المعصوم قطب الرحى بالنسبة للأمة الإسلامية، ولم يكن خلفاء بني أمية، وبني العباس مهتمون بالأحكام والتعاليم، بقدر إهتمامهم بإماتة علوم أهل البيت (عليهم السلام) فهم مصابيح الدجى، وعناوين التقى، وإلا ما الذي يدفع هؤلاء الولاة العاصون الضالون من أخذ الإمام المعصوم حيثما حلوا، إلا ليكون تحت رقابتهم، فهم يدركون مكانته بين الأمة، وقدرته على قلب الأمور عليهم.
طريق الحق والحرية جل ما أهتم به أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وأصابع الأمة لا تستطيع عمل شيء يذكر، دون إبهامها الوحيد وعصمة أمرها، رغم أن بيوت الفقراء من الزجاج وبيوت الفاسدين من حديد، لكن الثبات على العقيدة والولاء للمذهب، والحفاظ على الدين هو ما جعل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يتصدرون الزعامة، في قيادة الأمة صوب الحرية الموشحة بدمائهم الطاهرة.
الألم الحسيني كان وما يزال ممزوج بالنصر والكرامة، وقد سار أبناء أبي الأحرار وسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا النهج، فلا تذهب دماؤهم للرقاد، بل تلج معراج الشهادة الأبدية، وراهب آل محمد الإمام موسى بن جعفر أحد أركان الهدى والعروة الوثقى، صاحب السجدة الطويلة والساق المرضوض، بحلق القيود (عليه السلام) حين إنبرى ليواجه طواغيت بني العباس في مسيرة عظيمة بكل تفاصيلها، فالفكر الذي كان يطرحه بنو العباس للإنتقام، من العلويين والموالين لعلي (عليه السلام) ليس ببعيد، عن الفكر المتداول بالعقيدة الداعشية وسعيهم للقضاء على الدين والمذهب، فهما وجهان لعملة واحدة.
هل يوجد مقياس لحقوق الإنسان، التي تعامل بها بنو العباس، مع الإمام موسى بن جعفر خلال تنقله من سجن لسجن طيلة ثلاثين عاماً؟ أم هل يتحمل شخص وزن القيود الحديدية، التي كانت تثقل جسده الطاهر؟
رغم كل ما عاناه من مصائب وألم، أصبح اليوم من المشاهد المقدسة المهيبة، التي تأخذك حيث تمتزج حرقة الفراق عن المعشوق، وأمل اللقاء والخلاص، ليعطينا دروساً وعبراً في التحدي، والصمود، ومواجهة الطغيان، والإستعباد، وإلا فمن الطبيعي أن موسى بن جعفر، وهو جزء من هذه السلسلة العلوية الطاهرة، يمكن له أن يعيش عيشة الملوك، لكنه يردد دائماً أيتها الدنيا الفانية عمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، فلا مصدر للعزاء سوى أن أهب دمي وصبري وحريتي، لمن يتعلم الدرس جيداً.
ختاماً: ما هذه الحشود المليونية الزاحفة صوب الكاظمية المقدسة، في الخامس والعشرين من رجب، إلا تجديد للبيعة والولاء لراهب آل محمد، وأسد بغداد كاظم الغيظ موسى بن جعفر (عليه السلام) ليكون جسراً ناطقاً بالحق، والحرية، ووثيقة ناطقة بالدم ضد الظلم والإرهاب، أياً كان منبعه ومصدره، لأننا أصحاب صرخة هيهات منا الذلة.