22 ديسمبر، 2024 7:54 م

تعصبنا للتاريخ ….انقلاب على الحياة

تعصبنا للتاريخ ….انقلاب على الحياة

الكثير منا ناقم على الاوضاع التي نعيشها ، البعض يأدلجها ، البعض يحللها ، الاخر يفلسفها ، وجماعة تبرر لها ، واخرى تسخفها وهلم جرا ….الا ان النتيجة هو تردّينا اكثر واكثر في نفق فقد الكثير منا امكانية الخروج منه سالمين …
تلخيصا لكل الاراء والتفسيرات ، أقول أن علتنا تكمن في اننا قوم اعتدنا تجنب المغامرة بالعيش في الحياة الحاضرة بسبب تعقيداتها ومتطلباتها التي لم تعد لا قوانا العقلية ولا العلمية ولا الثقافية قادرة على مجاراة متطلباتها المتزايدة ، وبدلا من ذلك نهرب منها الى ماض يسهل الغفو فيه وتشكيله وفقا لهوانا ومن ثم السباحة في احداثه وتموجاته انّى شاءت مراكبنا .
    ومع الوقت ، صرنا قوم نحترم الموت اكثر مما نحترم الحياة …ونعمل من اجل الموت اكثر مما نعمل من اجل الحياة …فتفننا في اساليب سلب الناس حياتهم للتعجيل بهم الى موت محقق …
وأما وقد بلغنا غلوا في تقديسنا للماضي ورفضنا للحياة ، فقد اصبحنا نتسامح مع من ينقدون حياتنا ، لكننا نرفض التسامح مع من ينقدون تاريخنا …وتطرفنا في ذلك ، حتى بات الغير الذي لا ينتمي لتاريخنا شرا مستطيرا وجب اقتلاعه من وجه البسيطة ..
ترانا نعترف بخطايانا وننقد حياتنا واساليبنا كلها ثم نصر على تنزيه تاريخنا وابطاله وموتاه من النقائص والعيوب ، لا بل نضفي عليهم صفة الالوهية والتقديس وكأنهم لم يكونوا بشرا سواء حالهم حالنا ..
    ان الحياة تجربة ، والتجربة حاضر ومستقبل تستثمر خبرة الماضي ، لكن تجربتنا نقصرها فقط على الذي كان في يامكان في الماضي ، وبذلك نقطع اواصر استمرار نسغ الحياة وتبلور التجربة فنكون واحلامنا في الماضي …ولا نحصد من ذلك الا الفراغ الذي مازال يمتد ليعزلنا اكثر واكثر عما حوالينا …
     ثقافتنا غارقة بموضوعاتها التاريخية …وبما أن تاريخنا لم يدوّن بصورة علمية صحيحة ، وقد امتدت اليه يد ذوي المصالح والاغراض فصاغته وفقا للاهواء والتحزبات والمشاحنات …وبالتالي فان الخصام فيه وانتهاجه ذريعة بيد هذه الجماعة او تلك …لهو طريق طويل لن يوصلنا الا العدم …..فهكذا ثقافة قد تعلمنا كيف كنا …لكنها لا تعلمنا كيف يجب ان نكون …لا بل وتورثنا كل صراعات الموتى وسكنة مقابر التاريخ …
    اليوم ترى في عالمنا العربي ردة كبرى…حيث يكثر الحديث عن التاريخ ومأسيه ، كل بالطبع من وجهة نظر مخالفة للاخر….فيجترعون القصص والاساطير ويحرفون حتى المكتوب المزيف ليتلائم مع الاغراض المستجدة ليستمر التطاحن بيننا كمخلوقات خرافية لا تنتمي لعصرنا بسبب … وقلة جدا من ينادي كيف يجب ان نعيش ومن ينادي بالحياة ، وهولاء يجري اجتثاثهم من الحياة ومن الثقافة اجتثاثا وحشيا لانهم يغردون خارج قطيع المنومين مغناطيسيا .
مادمنا كذلك ، نعبد الموت وننسج الاساطير حول الموتى في تاريخنا المثقل بالاكاذيب ، فنحن اذن نثبت اننا شعب اهل للعيش في المقابر من العيش في الحياة ، واننا لا نريد ان نتغير ، فكل شيء فينا بات يستنهض الماضي المكرر ، ولا بصيص لنور اليوم او المستقبل في افقنا الملبد بالظلام ….
يقال مامن عداوة دائمة …انظر لاعداء الامس الاوربيين كيف هم حبائب اليوم..الا نحن ..فأعداء الامس البعيد هم اعداؤنا اليوم ..واعداء الابد وللابد ….لقد تنازلنا بكل لطف وطيبة خاطر عن أعداء اليوم من صهاينة مجرمين واميركيين محتلين وغربيين استعماريين وسياسيين فاسدين اكلي قوت الشعب وراسماليين احتكاريين وووو …لكننا بقينا على المبادئ ثابتين …العدو هو العدو وان بعد 1400 سنة ، والبركة في توريث العداء والاحقاد الى الاحفاد واحفاد الاحفاد …ومن ثم يجب اخذ ثأر موتى الماضي من ابناء حياة اليوم ..وبالتالي اقتلاع الحياة نفسها .
     هذا هو منطقنا اليوم لان مثلنا اصبحت ميتة بعد أن نصبنا العيّارين والجهلة اولياءا لامورنا ، ومن يولي جاهلا فقد تحمل خراءه….
     ماتنجزه البشرية من قفزات حضارية كبرى لا يعنينا بشيء الا بالمقدار الذي نستغله لخدمة الاهداف الشيطانية الشريرة في نفوسنا الامارة بالسوء ثم لنتفرغ للعن البشرية وتكفيرها وندوس على تلك المنجزات كانما نمر فوق جثث هامدة .
كل الامم التي تعرضت في تاريخها الى صدمات عدّلت من نهجها وصاغت لنفسها طريقا جديدا للحياة الا نحن …
    فلو قارنا بين ثقافتنا ونهجنا بالتفكير قبل 1400 سنة وبين ثقافتنا ونهجنا الفكري اليوم لراعنا التطابق والتشابه بين البداية والنهاية ….انها نفس ثقافة الموت والتكفير وقطع الرووس وثارات هذا وذاك من الميتين ….انها نفس ثقافة الرايات الملونة المرفوعة التي تسال تحتها الدماء بلا واخز من دين او ضمير ….رايات سود سودت حاضرنا وتأذن بنسف مستقبلنا بعد ان لوثت ماضينا …وستبقى منسدلة على بلداننا الى أن يأذن الله بأن يقضي ماضينا نحبه ..