ضمن حزمة ( الاصلاحات ) التي تبناها مجلسي الوزراء والنواب لمواجهة الغضب الشعبي على الظلم والمحاصصة والفساد ، تم تقديم أفكارا ومقترحات لتعديل قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 وتصب اغلب التعديلات في هدف واحد وهو الإخراج المبكر من الوظيفة لإيجاد درجات وظيفية ضمن حركة الملاك لإحلال موظفين جدد بدلا من المحالين إلى التقاعد ، وسواء كانت الأرقام حقيقية أم إنها باجتهادات فان تطبيق القانون سيوفر أكثر من 250 ألف فرصة عمل لتوظيف الخريجين وغيرهم من العاطلين كمحاولة لامتصاص الغضب الكبير بانتشار البطالة التي تعود لعاملين مهمين ، الأول هو الإدمان على تعطيل فعاليات العمل والإنتاج في القطاعات الاقتصادية ( العام ، المختلط ، الخاص ) لتسهيل الاستيراد لإرضاء الدول المصدرة او لإيجاد غطاء للفساد وزيادة الثروات الشخصية والعائلية ، والثاني هو قيام الحكومة بإدخال مواد في مشاريع قوانين الموازنة الاتحادية منذ خمس سنوات تتضمن إيقاف التعيينات بكل أشكالها حتى وان كانت من حركة الملاك وبشكل قلص من التعيينات عدا التعيينات العشوائية بالرشوة وللبعض خارج السياقات في غياب مجلس الخدمة الاتحادي ، ويضاف لذلك استحداث مادة في قانون الموازنة تتيح للموظف التمتع بإجازة لمدة خمس سنوات يتقاضى خلالها 75% من راتبه الاسمي وتعد مدة الإجازة خدمة تقاعدية ، ومن اطلع على تعديل قانون التقاعد يمكنه أن يلمس الرغبة الواضحة في التخلي عن الخبرات التي تتراكم من الوظيفة لإيجاد موظفين جدد بدون تراكم الخبرات التي تعينهم في الإنتاج والابتكار والإبداع ، حيث ركز على تقليص السن القانونية للإحالة إلى التقاعد بجعله 60 عاما كحد أقصى والسماح لمن لديه خدمة مقدارها 15 سنة وبعمر 45 سنة بالإحالة إلى التقاعد وتقاضي الراتب التقاعدي ، وان يكون الحد الأدنى للراتب التقاعدي 800 ألف دينار شهريا لمن يحال إلى التقاعد بسبب السن القانونية او الأسباب المرضية او عندما يكون معيلا لاثنين فأكثر و600 ألف دينار شهريا للآخرين .
وقد ادخل مشروع التعديل الذي تمت قراءته الأولى والثانية في مجلس النواب وبات بانتظار تشريعه بشكل نهائي خلال أيام ، مجموعة من المواد التي تتبنى مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية بدلا من مفهوم الدولة المنتجة من خلال تأمين مدخولات شهرية لأكثر من 5 ملايين متقاعد شهريا من النفقات التشغيلية للموازنة الاتحادية التي تمول بشكل شبه كامل من إيرادات بيع النفط وليس من الناتج المحلي للسلع والخدمات غير النفطية ، ومن المواد التي أقحمت في المشروع هو السماح للموظف بشراء خمس سنوات خدمة للحصول على الراتب التقاعدي بدلا من بيع راتبه التقاعدي لصندوق التقاعد ليبني مشروعا اقتصاديا يخدم الدخل القومي وتتخلص الدولة من التزاماتها في تامين رواتب تقاعدية للقادرين على العمل والإنتاج ، فضلا عن منح مكافأة الخدمة التقاعدية لمن لديه خدمة بمقدار 25 سنة فأكثر بمعدل 12 راتب مضروبا بآخر استحقاق قبل إحالته إلى التقاعد وتعديل نسبة احتساب الراتب التقاعدي من 2,5% لكل سنة تقاعدية إلى 3,5% وبما يرفع الراتب التقاعدي ويحدث عجزا في صندوق التقاعد الوطني ، والسماح للمفصولين والمستقيلين والمعزولين وتاركي العمل بالحصول على الراتب التقاعدي إذا كانت لديهم خدمة تقاعدية 15 سنة فأكثر وتطبق بأثر رجعي من دون المطالبة بالفروقات وبشكل يسمح بغير المساهمين الفعليين بصندوق التقاعد ( على أساس الأسعار الحالية ) في التقاضي منه مما يضطر الدولة لسد العجز في الصندوق من تخصيصات الموازنة الاتحادية كل عام ، وقد تم الترويج لهذا التعديل كونه انجازا و ( إصلاح ) ، رغم إن فيه اعباءا مالية كبيرة ومن شانه أن يعطل الطاقات البشرية المنتجة بتحويل من عمره 45 سنة فأكثر إلى عاطلين يتقاضى كل واحد منهم 500 دولار على الأقل ، رغم إن الدولة تعاني من المديونية الخارجية التي تقول أرقامها المعلنة إنها بمقدار 130 مليار دولار وهي من نوع الديون بهيئة قروض بفوائد سنوية واجبة السداد كما إن تلك الديون غير قابلة للتسوية في نادي باريس او غيره .
وقد يفهم البعض من خلال قراءة هذه السطور بانتا ضد منح المزايا لأبناء شعبنا الكريم بتامين وسائل العيش لهم لتوفير متطلبات الحياة الكريمة ، والصحيح إن فكرة تحويل الدولة إلى مستودع كبير للموارد البشرية وتامين حد الكفاف لمستوياتهم المعيشية دون تمكينهم من إنتاج رواتبهم ومستحقاتهم غير محبذة لكل من يفهم مبادئ الاقتصاد ، لأنها عبارة عن حلول ارضائية او ترقيعية سرعان ما ينكشف أمرها بانخفاض أسعار النفط او تعثر الصادرات النفطية او أي اختلال يحدث في الإيرادات الاتحادية ، آخذين بنظر الاعتبار حجم المديونية الداخلية والخارجية للعراق التي تتطلب دفع 5 تريليون دينار سنويا لخدمة الدين واستحقاق بعض القروض للتسديد ، كما إن نفط العراق بات مرهونا بيد شركات التراخيص التي تستحوذ على حصة كبيرة من إنتاج النفط وهناك التزامات أخرى تتعلق باستيراد الطاقة الكهربائية والغاز من الخارج لتقليل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك ، ناهيك عن الالتزامات المتعلقة باستيراد المشتقات النفطية بسبب عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يغطي الاستهلاك رغم تصدير 4 ملايين برميل من النفط الخام يوميا ، وان المعالجات من خلال التعيين أثبتت خطورتها لأنها تكون حافزا لترك القطاعات الإنتاجية وتنامي الفساد ، فالدولة بإمكانها التعيين ولكنها ما تلبث أن تكون عاجزة عن تحفيز الموظفين فيتحول بعضهم إلى سارقين او مرتشين لان مدخولاتهم لا تغطي احتياجاتهم المعيشية ، وكمثال على ذلك إن الحكومة لم تستطيع زيادة سلم الرواتب الصادر بموجب القانون 22 منذ عام 2008 ولحد اليوم رغم إن أسعار النفط تزايدت بضعفين او أكثر ، وعندما حدث تغير في أسعار النفط قامت حكومة العبادي بتخفيض السلم وفرض الضرائب على رواتب لا تكفي للمعيشة ، وان إتباع سياسات التعيين هي وسيلة سهلة للحكومات لتهدئة الشارع ولكمها مكلفة لأنها لا تمول من امتيازات صانعي ومتخذي القرارات وإنما من المال العام وعلى طريقة ( مال عمك ميهمك ) ، إذ من المفروض أن يتم تفعيل قطاعات الاقتصاد وتوفر الخدمات وتقليل معدلات التضخم لكي ينعم المواطنين برفاهية حقيقية وغير مزينة بقرارات لا تعرف تكاليفها وأعبائها والقدرة على سدادها وتغطيتها ، فمن ابرز الواجبات الوطنية للمخلصين الحقيقيين الباحثين عن الإصلاح هو المحافظة على الثروات البشرية وتوظيفها بالشكل الصحيح وعدم تعطيلها والهدر فيها ، ونحن لا نستكثر على أبناء شعبنا العزيز التعيين وزيادة الرواتب التقاعدية وإنما نخشى القطف المبكر لثمارها قبل نضوجها كما إننا نخاف على بذورها وبراعمها وفسائلها لكي لا تكون عقيمة او يمحى تاريخها الذي صنع كل ما هو مشرق في العراق ، فمن يتولى شؤونها يجب أن يكونوا زراعا ويجيدون الاهتمام بالإنسان وليس مجرد تجارا يهمهم الاستيراد وهدر الثروات ، او فاسدين يهدفون التغطية على الفساد من أموال ليست من لحم ( ثورهم ) فثروات البلد توارثناها من عرق جبين من ضحوا من قبل لإبقاء دررها لكل الأبناء ، ونقول نعم لإيجاد فرص العمل باستحقاق ولإنصاف المتقاعدين ولكن ارحموا ثروات العراق من الضياع فمنها من حقوق من سيخلفنا من الأجيال .