رسائل عديدة يحملها الضجيج الحاصل بشأن التجديد دون أن نرى له طحينا، في مقدمتها كثرة الجهات التي تريد دس أنفها لتوسيع نطاق الهيمنة والاستحواذ على الأمور الدينية.
المتابع للشأن المصري يجد أن الاهتمام الذي حظي به تجديد الخطاب الديني لم يسفر عن شيء ملموس، وتوحي النتائج الحالية بعدم الإدراك لخطورة الجمود الذي يعتري الكثير من جوانب التفكير في أمور دينية. وربما يجد البعض ضالته في الخمول الذي اعترى كثيرين، والفشل الذي وصلت إليه دعوة رئيس الجمهورية لمؤسسة الأزهر لتبني خطاب جديد يصلح ليكون حكما ومرشدا في الحرب الجارية لمكافحة الأفكار المتشددة.
الفتور السائد حاليا يعبر عن عدم الشعور بالقلق لدى الجهات المعنية، والعجز عن تبني مفاهيم تتناسب مع روح العصر، ويلاحظ رغبة عارمة في التكيف مع الانسداد، وأن هناك جهات قوية تقاوم تجديد الخطاب نجحت في فرملة التصورات الرامية إلى التغيير، بما يفيد وجود صمام أمان يدافع عن المتطرفين ويمنحهم الفرصة للمزيد من التمدد والتغول في غياب الروادع المادية والمعنوية.
رسائل عديدة يحملها الضجيج الحاصل بشأن التجديد دون أن نرى له طحينا، في مقدمتها كثرة الجهات التي تريد دس أنفها لتوسيع نطاق الهيمنة والاستحواذ على الأمور الدينية، أو رغبة في التواجد تحت الأضواء والبحث عن وظيفة سياسية، أو منع إصدار فتاوى وتشريعات تضيّق الخناق على رقبة جهات تستفيد من الفوضى الهدامة.
تتناطح مشيخة الأزهر مع كل من وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ناهيك عن بعض السياسيين تحت قبة البرلمان وخارجه، ممن يجتهدون في البحث عن أدوار تمنحهم بريقا إعلاميا، لذلك شرعوا في الدخول على خط التجديد، حتى تفرق دمه بين جهات مختلفة.
الأزهر يصمم على احتكار الدين ويسعى لترسيخ المفهوم التقليدي وأنه “حامي حماه في مصر والعالم الإسلامي”، دون أن يقدم أدلة تؤكد أحقيته بهذا الشرف، وأصبح متفرغا لقصقصة أجنحة من ينافسونه، ولم يقدم ما يعينه على اعتلاء هذه المكانة واكتفى بالمحافظة على روح القداسة التي حصل عليها بحكم العادة وتقاعس الآخرين عن محاسبته، خوفا من مغبة الصدام معه، ودرءا لفتن تعطي المتشددين فرصة للمزايدة، وتوجيه اتهامات تترتب عليها نتائج خطيرة. لم يستثمر الأزهر الدفعة المعنوية التي منحتها له مؤسسة الرئاسة، وتهاون في فرصة تكليفه بتجديد الخطاب، وراوغ وكأنه يتهرب من تحمل مسؤولية جسيمة في الوقت ذاته لم يسترح لتقديم أي جهة أخرى اجتهادا مغايرا في هذه المهمة، وعقد مؤتمرات ولقاءات لم تقدم دليلا على امتلاكه رؤية تتواكب مع المشروع الذي كلف به.
فريق وزارة الأوقاف يصمم على سحب البساط من تحت أقدام المشيخة، ويحاول تقديم رؤية عصرية بصبغة سياسية، تتماشى مع ما تريده الحكومة المصرية، لكنه سوف يظل مكبلا بعقدة ورواسب الأزهر، وفشلت جميع المحاولات للقفز عليه، حتى الرضا الذي حظيت به الأوقاف بسبب الخطوات التي اتخذت لإبعاد السلفيين عن اعتلاء منابر المساجد تعثرت، وعاد الأزهر ليزأر ويقبض على الدفة مرة أخرى.
لم يصمد مشروع الأوقاف للخطبة الموحدة وتهاوى تدريجيا، تحت وقع الضربات التي تعرض لها من دوائر مختلفة، في مقدمتها الأزهر، لأن النجاح يحمل إشارة إيجابية تؤكد قدرة وزارة الأوقاف على التفكير خارج الصندوق، ولو كان الصندوق محطما، المهم يقدم رؤى تقطع الطريق على شيوع فكر المتطرفين، والوصول إلى هذه النقطة ربما يفتح الأبواب المغلقة للحديث عن تبني خطاب ديني جديد يمكن تعميمه في مصر، وينهي التقاعس الذي تتهم به المؤسسات الدينية.
أما فريق الإفتاء فيبدو كامنا نسبيا لكن يبقى في نظر الكثيرين متحفزا لانتهاز الفرصة، ففي ظل استمرار اهتزاز صورة الأزهر والأوقاف جراء الحرب الخفية التي يخوضها الطرفان، يمكن أن تصبح دار الإفتاء أكثر جاهزية للقفز على مشروع تجديد الخطاب، ولديها من المؤهلات ما يساعدها على القيام بهذه المهمة.
غالبية المسؤولين في هذه المؤسسة من خريجي الأزهر، ويملك قطاع كبير منهم خبرة طويلة في التعامل مع القضايا الحياتية، وعندهم فتاوى حافلة بالاجتهادات العصرية، وبدأوا خطة واعدة للتطوير والاستفادة من التكنولوجيا، والرد السريع على التصرفات الشاذة التي تتبناها حركات إسلامية متطرفة، الأمر الذي يجعلهم أكثر تأهيلا للإشراف على تبني خطاب ديني جديد.
المنافسة الشرسة بين الجهات المتباينة، والصراع الذي يغلب على الخطاب الديني، أعطيا الفرصة لأصوات كثيرة، مؤهلة وغير مؤهلة علميا، للمشاركة في الصخب العام، وظهرت أصوات من داخل مجلس النواب تنوي تقديم مشروعات لقوانين تحد من دور الأزهر وهيمنته، لأنه في نظرها أصبح عائقا وليس مجددا، وانشغل المحسوبون عليه بالرد على من يتصوروا أنهم يتربصوا به، وتاه الخطاب الديني في زحمة المكايدات التي أعاقت تجديده، بل وأدت إلى تجاهل التفكير فيه، وهو ما تريده قوى كثيرة تعمل عكس التيار التجديدي المحدود. الحصيلة التي يخرج بها المراقب تدفع إلى ضرورة التفكير في وسيلة أخرى للتجديد، تتجنب العقم الذي أصاب العلماء التقليديين بعد إخفاقهم، وبشتى أطيافهم، في المهمة التي أوكلت إليهم.
تفكير يمنح المراكز الوطنية والشخصيات الثقافية المتحضرة فرصة لتبني مشروع طموح يقلص الكهنوت الذي يمارسه البعض عن قصد أو دونه، ويفتح المجال الواسع للاجتهاد في قضايا أضحت بحكم العادة من المحرمات، لأن انتظار وصول الجمل (التجديد) لغاياته قد تتمخض عنه فئران كثيرة، تقضي على ما تبقى من أمل لتجديد الخطاب.
تهيئة البيئة الاجتماعية لتقبل التجديد عملية ثقافية معقدة قبل أن تكون مهمة دينية بحتة، إذا تم إحراز أهداف عدة في هذا المرمى سوف تبور وتتلف تلقائيا بضاعة علماء الأزهر، ومن مشوا على خطاهم، وإما أن يجبروا على التجديد حتى لو جاء عكس توجهاتهم المتصلبة، وإما أن ينفصلوا عن الواقع ويسبقهم الزمن، ويصبح المجتمع المصري في غنى عن جميع الأفكار الرجعية.
نقلا عن العرب