يحبس العراقيون والعرب أنفاسهم خشية حدوث تداعيات لا تحمد عقباها ووقوع صِدامات حامية الوطيس بين تظاهرتين حاشدتين ،الأولى ضد الفساد والمفسدين بحثا عن وطن ورفضا للتدخلات الخارجية الشرقية منها والغربية(اميركا + ايران) بالقرار السيادي العراقي خرجت في ساحة التحرير وبقية الميادين منذ الأول من اكتوبر الماضي وقدمت الآف الشهداء والجرحى، والثانية ضد الوجود الاميركي البغيض في العراق وإنتهاك السيادة قرب مجمع الجادرية وسط العاصمة بغداد يصدق فيهما ما قاله عالم الاجتماع الأميركي،رايت ميلز،”لكل ثورة،ثورة مضادة، وهذه علامة على أن الثورة حقيقية”، ثورة ثانية قد تولد من رحم الأولى الا أنها تتقاطع معها لتجهضها،لتبتلعها،لتضعفها،لتركب موجتها،لتجيرها لصالحها،لتحرف بوصلتها ، لتغيب صوتها قد تكون عفوية كما يروج لها قادتها وقد تكون لتدوير النفايات مصنوعة من قبل الدولة العميقة التي باتت تشعر بقرب نهايتها لإعادة إحياء أصنامها وأحزابها الهزيلة الزائلة من خلال الثورة الثانية ولعل هذا بمجمله ما يمكن قراءته بين السطور بالتزامن مع ظهور التظاهرتين الحاشدتين بظل حكومة تصريف أعمال وإحتدام الجدل بشأن تسمية رئيس وزراء جديد خلفا للمستقيل غير المستقل واقعا عادل عبد المهدي، في بلد غني بالثروات يموت أبناؤه جوعا،بطالة،قهرا،ظلما،جهلا ،مرضا،من جراء العبث الكلي بخيراته ومقدراته من قبل السياسيين الطائفيين الفاسدين وأغلبهم جاء على ظهر الدبابة الاميركية ،وجلهم من مزدوجي الجنسية والولاء والتبعية حتى قيل في أمثالهم “لأن تكون مغتربا عن بلدك في الخارج وولاؤك لوطنك ،خير لك من أن تكون داخل بلدك وولاؤك للخارج “.
ولاشك أن الذاكرة الانسانية تحتفظ بسجل حافل للتظاهرات الشعبية العارمة التي غيرت وجه التأريخ حول العالم وأبرزها “تظاهرة الشاي” الأميركية إحتجاجا على الضرائب البريطانية المفروضة على إستيراد الشاي والتي إنتهت بإستقلال الولايات المتحدة وولادتها ،ولم يختلف الحال كثيرا مع مسيرة الملح الهندية الكبرى إحتجاجا على ضريبة الملح البريطانية التي تبنت مبدأ الساتياغراها ” ويعني الاصرار على الحق مستخدمة اللاعنف طريقا للإصلاح والتغيير وإنتهت بإستقلال الهند عن التاج البريطاني ،والقائمة طويلة عن سجل الإعتصامات ، الإضرابات ، الوقفات الإحتجاجية ،العصيان المدني، الإنتفاضات،الثورات،ولكل منها تعريفه الخاص ،منها ما إتصف بالغرابة الشديدة كتظاهرات “منظمة فيمن “أوعاريات الصدور التي تأست أول مرة في أوكرانيا ، كذلك تظاهرات منظمة “بيتا” المتخصصة بالدفاع عن حقوق الحيوان ولكن بطرق غريبة وعجيبة،تظاهرات ومسيرات وإحتجاجات حركات الميم (LGBT) المدافعة عن المثليين والشواذ، ومنها ما هو طبيعي ووطني عادة ما يواجه بالقمع المفرط من قبل السلطات الحاكمة فيندثر أو يواصل مقاومته برغم التضحيات الجسام فينتصر يصدق على بعض منها قول الروائي الشهير جورج اورويل”لا يوجد من يؤسس دكتاتورية لحماية الثورة، ولكن يوجد من يقوم بثورة لتأسيس دكتاتورية” فيما يصدق على بعضها الاخر مقولة الأديب والروائي الفرنسي الاشهر فيكتور هوغو” عندما تصبح الدكتاتورية حقيقة واقعة تصبح الثورة حقا من الحقوق”.
ولكي نكون منصفين وموضوعيين بعيدا عن التحيز والتحزب لهذا الطرف أو ذاك أقول ، اليوم وعندما تتظاهر المرأة المحجبة في الساحات والميادين الى جانب السافرة الى جانب المرأة الشعبية صاحبة العباءة الى جانب الطالبة والمسعفة والرسامة جنبا الى جنب مع الرجل المسن برفقة ذوي الإحتياجات الخاصة بمعية الشباب العاطل عن العمل والأدباء والمثقفين والاعلاميين والجامعيين فماذا بقي لساسة العراق ،وهم أس مصائب الشعب المسحوق وأس بلاء الوطن المحتل وكوارثه ، ماذا بقي لهم ليواصلوا قمعهم وتسويفهم وسرقاتهم واتهام المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوقهم على وفق الدستور ووصمهم بالجوكرية تارة وبأبناء السفارات أخرى؟ ووولكن !
بالمقابل فإن خروج من يتظاهر ضد الاحتلال الأميركي الذي عاث في الارض فسادا وافسادا وأهلك الحرث والنسل وأعاد العراق 500 عام الى الوراء ،لاريب أنه خروج مشروع ومنطقي ووطني لا يوجد مسلم عاقل بالغ على وجه الارض من يتجرأ على رفضه.. ووولكن !
ولكن الأولى يضعها المراقبون للشأن العراقي أمام قيادات التنسيقيات التي تقود المليونية – الاكتوبرية – المطالبة بالوطن والمواطنة وبالانتخابات المبكرة وبحل الاحزاب والمفوضية وتعديل قانون الانتخابات والدستور وترشيح رئيس وزراء مستقل من رحم التظاهرات وميادينها متسائلين “هل إن حرق الاطارات وقطع الطرق والجسور وتعطيل دوام المدارس والجامعات والدوائر الرسمية فضلا عن مصالح الناس، وإشعال النيران ببعض المباني العامة والخاصة علاوة على مجالس المحافظات والمقار الحزبية هو عمل يليق بثورة شعبية سلمية تطالب بالإصلاح ؟ ” أيمكن أن يكون التخريب طريقا للإعمار؟
في ذات الوقت الذي يسأل فيه المراقبون قيادات المليونية الثانية – الكانونية – المطالبة بإخراج المحتل الغاشم “لماذا جاءت متزامنة مع انتهاء مهلة الـ 15 يوما لتعيين رئيس وزراء جديد، لماذا لم تخرج مثل هذه التظاهرات الحاشدة يوم كان الحلف الاميركي – الايراني في أوج قوته قبل أن ينفرط عقده بصعود ترامب والانسحاب من الاتفاق النووي من طرف واحد ؟ لماذا لم تخرج يوم ارتكبت مجزرة الفلوجة الاولى عام 2003 ، يوم تفجرت فضيحة ابو غريب التي صعقت كل الشرفاء في العالم عام 2004؟ لماذا لم تخرج عقب مجزرة حديثة التي ارتكبها عناصر الكتيبة الثالثة من الفرقة الأولى الاميركية عام 2005 ؟ لماذا لم تخرج بعيد مجزرة النسور التي إرتكبتها منظمة بلاك ووتر عام 2007؟ لماذا لم تخرج يوم كانت القوات الأميركية تصول وتجول وتصطاد العراقيين الابرياء وتقنصهم بدم بارد في شوارع بغداد وبقية المحافظات ؟ لماذا لم تخرج يوم جرفت القوات الاميركية مئات البساتين وأحرقت مثلها من المزارع ونسفت عشرات المساجد ؟ لماذا لم تخرج يوم كانت القوات الاميركية تعتقل المئات وتدهم المنازل الآمنة بالشبهة ؟ لماذا لم تخرج يوم سرقت اميركا آثارنا ،هربت أموالنا،نهبت ثرواتنا ،سربت ذهبنا ،مزقت نسيجنا ،هتكت أعراضنا ،انتهكت حرماتنا ، دمرت مصانعنا ، كل ذلك بعد حصارنا وقتلنا جوعا لـ 13 سنة متواصلة لم يطالب أي منهم بمحاسبة القتلة وتقديمهم الى العدالة وإرجاع آثارنا وأموالنا وتعويض المتضررين من جراء ذلك ؟ مالذي جرى، هل تغير الحال فجأة فأصبحت القوات الأميركية غازية بعد أن كانت قوات “تحالف ، صديقة ، حليفة ” مازالت ولائم –القوزي والفسنجون – وتبادل القبلات والأحضان والزيارات وتوقيع الاتفاقات وأخطرها اتفاقية الاطار الستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق ، وجولات التراخيص موثقة بالصوت والصورة لتشهد على عمق العلاقة الوطيدة وتلاقي المصالح طيلة عقد ونيف بين الطرفين المتضادين حاليا،أم أن هنالك بعداََ آخر لاعلاقة له بالعراق ولاكرامته ولاسيادته بقدر تعلقه بأمن وسيادة الجارة إيران ، زيادة على علاقتها الوثيقة بالضغط عبر الشارع لتمرير اسم رئيس وزراء جديد لن يرضى عنه متظاهرو الساحات بكل تأكيد ؟!
تساؤل المراقبين المشروع يأتي بالتزامن مع تصنيف العراق مجددا وللمرة الـ 16من خلال مؤشر مدركات الفساد العالمي ضمن أكثر الدول فسادا في العالم ،وتفجير مفاجأة لاقيمة قانونية لقرارات المحكمة الاتحادية العليا لعدم اكتمال نصابها بحسب مجلس القضاء الاعلى ،وتصنيف العراق ضمن أقل الدول ديمقراطية وشفافية على المستوى الدولي،عودة الرصاص الحي وظهورالضمير الميت وبروز الوجه الملثم والعقل الغائب وإستكبار الخطاب الرسمي المطاطي حتى أن بعض المراقبين ممن كانوا يظنون أن ساسة الوطن وأحزابه لا يصلحون للحكم فحسب، قد اكتشفوا بأنهم لا يصلحون للتظاهر والمعارضة أيضا “لأن التظاهرة التي تأتي بعد سين وجيم ، قيل وقال ،لت وعجن ،لابد أن تثير من حولها الكثير من علامات الاستفهام وعلى أصحاب العلاقة الاجابة عليها وتطمين الشارع من دون تأخير لاسيما مع رفع الآف الصور والرايات، بروز عشرات الزعامات والمرجعيات والقيادات،حمل مئات الشعارات،الصدح بالمتنافر من الهتافات،الإدلاء بالمتقاطع من التصريحات،التفوه بالمتباين من التبريرات،الجهر بالمتصادم من الأفكار والايدولوجيات،إطلاق التهديدات بما يتطلب توحيد الخطابات وضبط ايقاعها لتكون وطنية عراقية خالصة لا تثير لغطا من حولها ولا غبارا ولا دخانا لم يعد يقوى العراقيون بمختلف مكوناتهم على إستنشاقه لأن دخان وغبار ما سبق من حروب وفتن وكروب مروا بها رغما عن انوفهم يكفي وزيادة بما لا يحتمل معها محنة أخرى تمهد لعبادة – صنم – والنوء بأعباء حصارآخر ،أو إستبدال الغربي من المحتلين والاصنام بشرقيها أو العكس،وما أفلح قوم ولوا أمرهم محتلا أو صنما ! أودعناكم اغاتي