لاول مرة تظاهرات حاشدة وبهذه السعة يقوم بها المواطنون وجلهم من الشباب في عدد من المحافظات بعيدا عن الاحزاب ، مشاركة وتنظيما ، بل كان للمتظاهرين موقفا واضحا في رفض اقتراب الاحزاب منها ، والقطيعة معها وتوجه جزء من غضبهم اليها وتصادموا معها وتحميلها مسؤولية الحال المزري الذي آلت اليه البلاد جراء حكمها الفاسد وادارتها غير الكفوءة والتي كشفت عن وجهها باطلاق النار على المتظاهرين ، وكذلك لم يسمحوا لشيوخ العشائر ورجال دين من قيادتها ، حتى امتنعوا عن تخويلهم في التفاوض عنهم ومقابلة رئيس الوزراء خلال زيارته الى البصرة، لانهم شكلوا الغطاء الاجتماعي للحكم الطالح وخشية ان يكون هؤلاء ” حصان طراودة ” يخرب نشاطهم وتحركهم العفوي ويسيء اليه بالاندساس المباشر ومن دس الاعوان فيه .
ان الجماهير ادركت ان الاحزاب السلطوية ، النافذة والكبيرة ، هي جزء من معاناتها ،ولم تعد تمثلها ولا تدافع عن مصالحها وحقوقها بتقديم خدمات معقولة ،رغم انه يعاب على هذا الجمهور انه لم يستغل الفرصة بالتغيير من خلال الانتخابات وصدمته نتائجها المزورة …
ان الاداء السيء فاقم التردي الذي شمل مناحي الحياة كافة ونهش الفساد الموارد وزاد من عسر العيش ، فيما تعمقت الفوارق في الدخل وانعدام المساواة والتقاسم غير العادل للادوار، فقدت استولت فئئة قليلة على الثروة وفئة واسعة قدمت وضحت وما تزال ولكنها حرمت من حقها في ابسط الحاجات الضرورية ، الان تريد ان تعيد الاوضاع الى طبيعتها بحكم يمنحها حقوقها الدستورية ويمنع نهب ثرواتها .
لا ينقص العراق الموارد التنموية وعناصر نهوضه على الصعد كافة ، ولكن تسلط مسؤولين غير مؤهلين وعديمي الكفاءة على ادارة البلاد جراء المحاصصة المذهبية والاثنية جعله يحتل ادنى درجات التطور في مختلف المجالات ليس على الصعيد الاقليمي وانما على الصعيد العالمي ، بحيث اصبحت الحكومات العراقية مضربا للامثال في السوء والفشل .
هذا ما جناه المواطنون من الاحزاب الفاسدة والمتشبثة بالسلطة والتي لم تكتف بنهب الملكية العامة ، وانما امتدت ايادي عناصر فيها لتبتز المواطنين وتستولي على اموالهم وممتلكاتهم جهارا انهارا في ظل انعدام قدرة الحكومات المتعاقبة التي تولت مسؤوليتها عن القيام باهم وظيفة لها بحماية المواطنين وتنفيذ القانون والتقيد باحكامه .
هذه الاوضاع المنفلته جعلت المتظاهرين لا يثقون بالزعامات التقليدية والاحزاب ويصدون محاولات تغلغلها وايجاد موطىء قدم بينهم والمتاجرة بهبتهم الجماهيرية وبيعها بوعود زائفة او مقابل اجراءات شكلية لا تغيير من جوهر حياتهم وتنقلهم من الحال البائس الى افضل منه ومعالجة العلة الاساسية ببناء نظام اخر بدلا عن القائم ..ان صلابتهم على مواقفهم والتمترس وراء مطالبهم بدء ياتي ثماره وجعل الحكومة تفكر ليل نهار كيف تخرج نفسها مما هي فيه .
هذه الاحزاب بما تمتلك من خبرة لن تكف عن محاولاتها التي تغلفها بنغمة الحرص على المطالب والتمسكن وتلوح بالترهيب بل وتمارسه واذ بدء اليوم بالغاز المسيل للدموع فان لم ينفع البنادق محشوة بالرصاص في انتظار الاشارة ما لم ينتبه المتظاهرون للذين يحاولون حرف مسار نشاطهم السلمي .. لو كانت الاحزاب جادة في تبني المطالب وتحقيقها عليها ان تعتذر عما سبق من اعمالها طيلة عقد ونصف من السنين .
حذار مما يحاك في الغرف المظلمة من متاهات الالتفاف على المطالب وضمانات تنفيذها في حال الاستجابة .
ان ديمومة التظاهر تفرض تكوين اطار تنسيقي مرن يسهر على الحراك من الناشطين انفسهم ، من الذين يتحلون بالكفاءة والخبرة والمتميزين بالصدق والنزاهة ويؤمنون بهذا الاطار المستقل لاجل بلورة المطالب المحلية الخاصة بكل محافظة والعامة على الصعيد الوطني وفي النهاية يكون هذا التكوين بمثابة برلمان شعبي مصغر لمتابعة ما يتم الاتفاق عليه او ما تقرره الحكومة على نفسها من خلال ما تستقيه من المتظاهرين مباشرة .
ان هذا الحراك يؤكد مرة اخرى هناك استعداد كامن لدى الشباب ما تزال الاحزاب بعيدة عنه غير قادرة على تحويله الى نشاط هادف وفعل ملموس للاستثمار في البناء واعادة تاهيل الوطن والتغلب على التحديات والمعضلات والاسهام في صنع القرار والمستقبل .