18 ديسمبر، 2024 8:52 م

تظاهرات تشرين في العراق وأزمة الهوية

تظاهرات تشرين في العراق وأزمة الهوية

لم تكن تظاهرات تشرين 2019 في العراق وليدة صدفة أو حركة انفعالية آنية ناجمة عن نقمة شعبية اتجاه نظام سياسي فاسد، بقدر ماكانت عملية (عرقنة) لطيف كبير من الشعب العراقي عاش محنة البحث عن وطن لعقود طويلة، مورست بحقه سياسات ممنهجة من الإقصاء والتهميش والتغييب والتمييز العنصري، ساهمت فيها الدولة العثمانية بشكل أساسي ثم تبنتها الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 ولغاية الان، المكون الشيعي العربي والذي تنتفض مدنه اليوم على الدولة بمفهومها العام وعلى نظامها السياسي الذي يهيمن عليه الشيعة، عانى هذا المكون على مر الأزمنة محنة البحث عن الهوية الوطنية، وأعطى في سبيل هذا البحث المحموم الآلاف من الضحايا في محاولة منه لإثبات عراقيته، التي سلبت منه مرغما تحت شعارات (القومية والشعوبية والعمالة والوحدة الوطنية) .. فكان حطب الحروب العبثية التي خاضها النظام السابق ورأس الحربة في الدفاع عن انتماء عروبي لم يمنح له لغاية الآن، من محيط عربي قومي ينظر إليه بعين الريبة والإقصاء .. فالشعار الذي رفعه أبناء هذا الحراك الشعبي الشبابي الكبير ( نريد وطن) كان شعارا جوهريا يحمل في ثناياه كل تراكمات الماضي وإرهاصاته وانعكاساته على هذا المكون العراقي الصميمي.. ولنرجع قليلا إلى الماضي للبحث في جذور هذه الإشكالية الاجتماعية والسياسية والتاريخية .. يروي ساطع الحصري في كتابه البلاد العربية والدولة العثمانية ..(إن سليم الأول حين أراد محاربة إسماعيل الصفوي أمر بقتل كل الشيعة في البلاد العثمانية، بفتوى من بعض رجال الدين على أنهم مرتدين).. وهذا النهج الطائفي، جعل الدولة العثمانية تتبني فكرة إنشاء برجوازيات عراقية على أساس طائفي، وإدخالها إلى الجيش العثماني والحياة السياسية، والتي تحولت فيما بعد النواة والركيزة الأساس التي تشكلت عليها الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعد أن تبنى الانكليز هذه البرجوازيات واحتضنها، وتغيرت تبعيتها للمستعمرين الجدد .. وقد عانى أبناء هذه الطائفة من ظلم الدولة العثمانية، كما عانى أبناء الطائفة السنية من نفس الظلم إبان الاحتلال الصفوي للعراق.. لكن الدولة العثمانية اتبعت طرقا أكثر حداثة وذات أبعاد إستراتيجية في تعاملها مع الشيعة العرب في العراق، ومنها سياسية الإقصاء التي انتهجتها حتى منعتهم من دخول أي وظيفة حكومية أو مدرسة حربية، كما يذكر كامل الجادرجي في كتابه من أوراق كامل الجادرجي (إن الطائفة الشيعية تعد في زمن الدولة العثمانية أقلية ينظر إليها بعين العداء فلم تكن يقبل لهم تلميذ في مدارسها الحربية، ولا أي وظيفة حكومية وحتى المدارس الإعدادية كانت يمنع أبناء هذه الطائفة من دخولها) والكلام هنا لكامل الجادرجي .. ويروي المرحوم عبد الكريم الازري في كتابه مشكلة الحكم في العراق (إن فتاح باشا قد تحول من المذهب الشيعي إلى المذهب السني، لأنه أراد إدخال ابنه المدرسة الرشيدية، ومن ثم إدخاله للمدرسة الحربية العثمانية، والتي كانت محرمة على الشيعة آنذاك)..لتأتي الحكومات المتعاقبة بعد ذلك وتعمق أزمة الهوية لدى شيعة العراق .. حيث يذكر حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية) إن جعفر العسكري قال لجعفر أبو التمن في إحدى حواراتهما (بأنهم اخذو الوطن وأعطوا لشيعة العراق الوطنية).. ليتبنى من بعد هذا المفهوم الأنظمة الشمولية القومية والبعثية التي حكمت العراق لتجعلهم حطبا لحروبها العبثية، وهدفا لسياساتها الاقصائية والطائفية .. بعدما نزعت عنهم هذا الانتماء ووصفتهم ( بالهنود والغجر والعجم ).. هذا الانتماء الوطني المسلوب ظل تتوارثه الأجيال في مدن الصفيح والعشوائيات والقرى الغافية على فقرها وبحار البترول، تتراكم وتكبر وتتعمق ككرة النار بعدما اعتقد الكثيرين إن سقوط الصنم سيغير من هذه المعادلة المغلوطة، وستحمل المرحلة الجديدة الحياة الحرة الكريمة لهذا المكون، وما هذه التظاهرات إلا رأس جبل الجليد الذي أسفر عن نفسه ليدق ناقوس الخطر بوجه منظومة سياسية فاسدة، كان الشيعة رأس حربتها الذين رفعوا شعار مظلومية الشيعة والتشيع سبيلا لهم للوصول إلى السلطة. العراق اليوم على مفترق طرق بعدما بدء هذا الحراك يأخذ طابعا يميل إلى العنف والمشاكسة، وأصبح تعطيل مرافق الدولة والحياة العامة أسلوباَ للفت الانتباه إلى المطالب المشروعة المتظاهرين، وبعد أن تحول العراق إلى ساحة صراع إقليمية ودولية، واستغلت التظاهرات من بعض القوى السياسية العراقية الداخلية والإقليمية لتوظيفها لصالح مشاريعها التخريبية أو للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، في ظل تعنت ومماطلة من قبل القوى السياسية الحاكمة، وبغض النظر عن الأيادي التي ساهمت في نشوء هذه التظاهرات والدوافع التي تقف ورائها، وما ستؤول إليه وما ستحققه، فإنها ستبقى علامة مضيئة وكبيرة في تاريخ العراق المعاصر، تستحق الوقوف عندها واستحضارها وقراءتها بتأني ومسؤولية من قبل الحكومات القادمة، لاستخلاص الدروس والعبر، والعمل على إنضاج مشروع وطني كبير يشارك فيه الجميع، تكون الهوية العراقية الركيزة له، يعيد للعرب الشيعة في العراق وطن سلب منهم عنوة.