كان لمراحل التطور الشعري في القصيدة العراقية الحديثة, دور بارز في حركة الدراسات النقدية والادبية, وتم رصد بعض جوانب التطور فيها , و اهم الانعطافات الرؤيوية الكبرى لحركة الشعر الحر في العراق بشكل خاص والوطن العربي بشكل عام. فوجدت تلك الدراسات ميداناً ثراً لإجراءاتها النقدية، واستجابته لما يحمله من خصوصية إبداعية وخصوصية فنية، أسلوباً وفكراً فحاولت – وباستمرار– الإحاطة به على كافة المناهج النقدية.
حاول الدكتور كاظم فاخر الخفاجي رصد بعض جوانب هذه التطورات في كتابه «الرماد ثانية– تطور القصيدة الغنائية في الشعر العراقي الحديث النصف الثاني من القرن العشرين» الذي صدر حديثا في طبعته الاولى 2012عن دار تموز _دمشق .
جاء المحتوى في خمسة فصول مسبوقة بمقدمة وتمهيد مضت في تتبع تطور القصيدة واستقراء ما أنتجته من خصوصية تميزها عن القصيدة الغربية التي اهتدت بها – على حسب تعبير المؤلف- والقصيدة التراثية التي استفادت منها مبينا قدرة الشاعر العراقي على مواكبة الابداع وتجاوزه.
تناول في التمهيد ماهية (الظاهرة الغنائية ) من خلال عنوانين:
اولاً : الظاهرة الغنائية بين الرؤية والتعبير
ثانياً : الظاهرة الغنائية فهماً وانتاجاً
متتبعا تاريخها ، وموضحا اسباب نشوئها ، ومستعرضا آراء الباحثين العرب منهم وغير العرب ، وصولا الى مرحلة الشعر الحر التي انطلقت من العراق مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين .
وقدم الفصل الاول مبينا الأدوات الإجرائية التي اشتغل عليها ، مبتدئا بالكشف عن بنية النص الغنائي البسيط ، لدى الشاعر العراقي الحديث ، من خلال الكشف والتحليل لبعض القصائد وعودة الشاعر الى الذات والانكفاء عليها.وتضمن ثلاثة مباحث ، تحدث في الاول عن البناء المقطعي في القصيدة الغنائية والذي بدوره لايخرج بهذه القصيدة عن بنائها البسيط ، ثم عرج في – الثاني – على دراسة البناء الدائري ، تلك القضية التي افاد منها الشاعر العراقي الحديث في بناء قصيدته مع توضيح انواعه ، وكيفية توظيفه الفني في بناء هذه القصيدة ، في حين كان الحديث في المبحث الثالث من هذا الفصل يدور حول البناء التوقيعي لهذه القصيدة . مؤكدا في ذلك ان نجاح بناء القصيدة او فشله لا يكمن في بساطة البناء او تركيبه ، بل في وفائه بنقل التجربة الشعرية او فشله في ذلك .
و قد عني الباحث في الفصل الثاني ، بدراسة الأنساق البنائية البسيطة التي جعلت من اللغة الشعرية لغة توليدية قادرة على التشكيل وفق توجهات الشاعر المحدث ، التي تداخلت مع عناصر التشكيل اللغوي المستحدث ، الذي وجد فيه محاولة رفع اللغة المحكية (المألوف اليومي) الى لغة شعرية ، والإفادة في بعض الاحيان من المفردات العامية وكل ذلك عمد الى خلق تراكيب لغوية جديدة بعيدة عن تلك القوالب اللغوية الجاهزة ، فجاءت المباحث الثلاثة :
– نسق التضمين
– نسق المفارقة
– نسق التوازي
وخص الفصل الثالث بتناوله قصيدة (القناع) ، معللا هذا التخصيص لدراستها بفصل منفرد كون قصيدة (القناع) ، وما يقاربها من استخدام للرمز والاسطورة هي الأكثر انتشارا وقبولا لدى المتلقي لارتباطها بمرجعيات تراثية مألوفة ، . ومن خلال هذا الفصل تتبع التحولات التعبيرية في التشكيل البنائي المركب للقصيدة الغنائية الحديثة ، التحول من الذات الى الموضوع . عبر ثلاثة مباحث :
– التشكيل الرمزي
– التشكيل الأسطوري
– التشكيل القناعي
ويؤكد الدكتور ان دراسة تلك التشكيلات الثلاثة ، لم يعن له فصلها عن بعضها بشكل حاد ، بل انها تتداخل مع بعضها بانصهار وفاعلية بحيث عمد في التحليل الى استكمال النظرة الشاملة – قدر المتاح – للنص المحلل محاولا ، استيفاء الغاية .
مشيرا الى جهود بعض الباحثين ممن سبقوه برصد هذا التحول ، ومنهم :
– فاضل ثامر في دراسته ( القناع الدرامي والشعر )
– محي الدين صبحي ، في دراسته ( الرؤيا في شعر البياتي )
– خلدون الشمعة ، في دراسته ( تقنية القناع ، دلالات الحضور والغياب )
– عبد الرضا علي ، في دراسته ( الأسطورة في شعر السياب )
– فهد محسن فرحان ، في دراسته ( الشعر الحديث في البصرة )
– سامح الرواشدة ، في دراسته ( القناع في الشعر العربي الحديث )
واكد من خلال هذا الفصل ان الاتكاء على (الرمز والأسطورة والقناع ) ، إنما عد ذلك معادلا موضوعيا اراده الشاعر الحديث في نصه ، كما أكد ايضا ان الحداثة تصدر في الأصالة ، وأنهما مصطلحان غير متناقضين ، كما هو شائع ، وان انبعاث أي امة لا يكون الا انبعاثا داخليا .
أما الفصل الرابع ، عني بدراسة الانساق المركبة التي ضمت في ثناياها أهم منجزات القصيدة الغنائية الحديثة ، وهي :
– الأداء القصصي ( الحكائي )
– الأداء الدرامي
– الأداء المونتاجي
– الأداء البصري ( الطباعي )
وقد تتبع خلاله التحولات التعبيرية في التشكيل البنائي الذي جعل من الدرامية هي الأساس الذي بنيت عليه نصوصهم ، معرجا على دور (ت. س . اليوت) في اتجاه القصيدة الى الطول والبناء الدرامي .
وجاء الفصل الخامس والاخير،حاملا الانعكاسات والبنى التشكيلية في الأداء الموسيقي للقصيدة التي درسها ، والذي عدها الباحث من ابرز التحولات التي شهدتها هذه القصيدة ، وجاعلها من الأسباب الاولى الداعية الى التجديد والتطور الذي ترجم نظريا وعمليا فكان اول خروج عروضي تمثل بكسر نظام الشطرين والاستغناء عن القافية الموحدة ، لتتخذ في البدء شكل قوافي ثنائية أو ثلاثية ..الخ . ثم الخروج نهائيا عن وحدة القافية والركون الى التفعيلة الموحدة لتتحول الى مرحلة جديدة وهي التنوع في القوافي والمزج بين البحور والتفعيلات في النص الواحد ، فضلا عن (التضمين النثري) الذي يعد من ابرز أشكال المزاوجة الموسيقية التي اهتدى اليها الشاعر العراقي الحديث .
وخلص الدكتور في مؤلفه هذا الى ان ما شهدته القصيدة الغنائية الحديثة على ايدي الرواد ومن تبعهم , انتقالة شاملة حين عمد هؤلاء الرواد الى الأنتقال بها من التعبير الرومانسي الى اتخاذ الواقعية والألتزام بالقضايا العامة اساسا في مضامينهم .حتى اخذ هذا التعبير مديات اعمق واشمل حينما ركن شعراء هذه الفترة الى اتخاذ صياغات غير المباشرة ، بالأستناد الى اليات تشكل معادلا موضوعيا لتلك المضامين منها (الاسطورة والرمز والقناع ) .
و ان نجاح بناء القصيدة او فشله لا يكمن في بساطة البناء او تركيبه ، بل في وفائه بنقل التجربة الشعرية او فشله في ذلك .
وتطورت اللغة الشعرية في قصيدة الشعر الحر تطورا فنيا ، فقد كانت في القصيدة التقليدية (الكلاسيكية) لغة مباشرة ، ثم تأرجحت في الرومانسية بين المباشرة والايحاء وأخيرا تحولت الى لغة ايحائية في قصيدة الشعر الحر .
ومن الامور المهمة التي خلص اليها الدكتور في مؤلفه هذا ,هو التوظيف الاسطوري في القصيدة الغنائية للرواد المغاير لأسلافهم ، اذ عدّ بعض نماذجهم الاسطورية تحولا جذريا في مسار الشعر العربي الحديث ، عادا ( التوحد بالرموز ) ساسا تقنيا لما عرف – بعدئذ- نقديا بـ ( قصيدة القناع ) تلك القصيدة التي اصبحت بمثابة ( اداة التلبس) التي يتخفى من خلالها صوت الشاعر.
ان الشعراء المحدثين نقلوا مستوى الخطاب الشعري ، من المباشرة الى الترميز ، ومن الغنائية الى السرد . كذلك وظف الشعراء الحدث القصصي في القصيدة الغنائية الحديثة ، فكلما تطورت القصة نحو القصة الدرامية ، كذلك تطور الشعر من الغنائية الصرف الى الغنائية الفكرية .
استخدام الشاعر العراقي المعاصر في بناء قصيدته الغنائية الحديثة اكثر من وسيلة بنائية واحدة كـ ( التقطيع ، السرد القصصي ، الحوار الداخلي – المنولوج – ، والتكرار ), كما لجأ عدد من الشعراء الشباب ( فضلا عن الرواد ) الى التجريب البنائي وتوظيف اساليب الفنون الاخرى كـ ( المونتاج السينمائي ، والتداعي الحر ) هذه التقنيات الحديثة ومنجزها الفني في السينما استطاع ان يؤثر في القصيدة الحديثة من خلال ابعاد واضحة ، منها الافادة من تقنية ( الكاميرا) .
ان موسيقى قصيدة الشعر الحر وعروضها قد تطور تطورا فنيا ودلاليا في بنية النص الشعري , من خلال تجاوزهم نظام الشطرين الى السطر الشعري واحلالهم الموسيقى الخفية التي تنبعث من التفعيلة محل الموسيقات الظاهرة التي تنبعث من القافية .
ومن هنا يمكن عدّ هذه الدراسة رافدا من روافد الدراسات النقدية والادبية, التي رصدت اهم جوانب تطور الجماليات الشعرية في القصيدة الغنائية, وممكن ان تكون معينا للباحثين والدارسين في هذا المجال.