البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور الإحيائي (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. في هذا الجزء ألأخير من البحث سنتناول التصور العلمي.
إنّ آخر التصورات البشرية عن العالم هو ألتصور العلمي، ونحن في هذا القرن نعيش ألتداخل بين التصور الديني والتصور العلمي عن العالم، وهنالك صراع بين هذين التصورين والمؤشرات تدل على إنحسار التصور الديني في مقابل إنتشار التصور العلمي عن العالم، ولكن عمليتا ألإنحساروالإنتشار للضدين تسيران ببطء نتيجة لإنتشار الجهل والامية وعقم التعليم في البيت والمدرسة أللذان يتصفان بالتلقين بدلا من غرس العقلانية والتفكير المنطقي.
إنّ كل تقدم كبير في المعرفة وسع أفق النظام وقلص بالتالي أفق الفوضى الظاهرة في العالم. وحتى الآن نحن على إستعداد لتوقع أن يسهم عمل المعرفة الغزيرة في كل مكان في تقليص الفوضى الظاهرة إلى نظام متناغم حتى في المناطق التي يسود فيها الحظ والإرتباك.
فالعقول المنفتحة التي ما زالت تضغط للتقدم نحو حل أعمق أسرار الكون، ترفض الإعتراف بفعالية النظرية الدينية عن الطبيعة، وترجع إلى وجهة النظر القديمة عن السحر من خلال الإفتراض صراحة، وهو ما كان السحر يفترضه تلميحا، بوجود إنتظام صارم في ترتيب الأحداث الطبيعية التي إذا ما راقبناها بعناية أستطعنا التنبؤ بمسارها بكل تأكيد والتصرف تبعا لذلك، وبإختصار، فإنّ العلم حل محل الدين في تفسير الطبيعة.
لكن بينما يشترك العلم في كثير من الحالات مع السحر، إذ إنّ كليهما يعتمد على الإيمان في النظام مبدءاً يكمن وراء الأشياء جميعها، فإنّ النظام الذي يفترض السحر وجوده مسبقا يختلف كثيرا عن النظام الذي يشكل أساس العلم. لكن الإختلاف ينبع بالطبع من إختلاف الطرائق التي أدت إلى التوصل إلى هذين النظامين.
فالنظام الذي يعتمد عليه السحر ليس سوى إمتداد للنظام الذي تقدم فيه الأفكار ذاتها إلى عقولنا، أما النظام الذي أسسه العلم فمشتق من المراقبة الدؤوبة والدقيقة للظواهر الطبيعية ذاتها. فغزارة النتائج التي توصل إليها العلم وصحتها وإمتيازها معدة جيدا لتوحي إلينا بثقة تامة بسلامة أسلوبه.
وهنا على الأقل، وبعد البحث في الظلام هنا وهناك على مدى عصور طويلة، عثر الإنسان على دليل يرشده للخروج من المتاهة، وهو مفتاح ذهبي يفتح كثيرا من الأقفال في خزانة الطبيعة، وليس ثمة مبالغة في القول بأنّ الامل في تحقيق التقدم في الأمور الاخلاقية والفكرية والمادية في المستقبل رهن بحظوظ العلم، وأنّ كل عقبة تعترض الإكتشافات العلمية هي إثم يُرتكب في حق الإنسانية.
إكتشافات علماء الرعيل الاول التي ساهمت في التقدم العلمي وتغيير تصوراتنا عن العالم :
– كان نيكولاس كوبرنيكوس أحد أعظم علماء عصره، ويعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه “حول دوران الأجرام السماوية”. وهو مطور نظرية دوران الأرض، ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث الذي ينتمي لعصر النهضة الأوروبية – 1400 إلى 1600 ميلادية.
– اعتنق العالم جوردانو برونو نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض على الرغم من انها كانت محرمة من قبل رجال الدين آنذاك، وذهب إلى أبعد منها بوضعه فرضية أنّ النظام واحد من مجموعة نظم تغطى الكون في صورة نجوم وألوهية ولانهائية الكون. كما افترضت نظريته إن كل من النظم النجمية الأخرى تشتمل على كواكب ومخلوقات عاقلة آخرى، ولذلك تم نفيه ولكنه قام بالعودة بعد وفاة البابا سيكاستاس الخامس وبدأ في تنظيم المحاضرات فلاحقوه وقبضوا عليه ثم سجنوه لمدة ثماني سنوات. وبعدئذ قطعوا لسانه وأحرقوه بتهمة الكفر. ولكن بعد وفاته شعر الباحثون بقيمة علومه وأبحاثه وإعتبروه شهيداَ للعلم، وتعبيرا من الكنيسة عن الندم قاموا بنحت تمثال له وهو يقف بعزة وشموخ.
– العالم جاليلو جاليلي نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، فقام أولاً بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، وقام بذلك عن طريق الملاحظة والتجربة، بسبب آراء جاليلو عقدت محاكمة من قبل محاكم التفتيش الرومانية سنة 1632. واتهم غاليليو بالاشتباه بالهرطقة وحكم عليه بالسجن لإرضاء خصومه الثائرين، وفي اليوم التالي خف الحكم إلى الإقامة الجبرية. وتم منعه من مناقشة تلك الموضوعات، وأعلنت المحكمة بأن كتاباته ممنوعة.
– نشر العالم تشارلس داروين كتابه أصل الانواع وكتابه نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسي ألمتضمنتان لنظرية تطور الكائنات الحية بالإنتخاب من خلية وحيدة إلى ملايين ألأنواع من الكائنات الحية وعلى قمتها ألإنسان كأعلى طور لتطور الثدييات.
نشر هذه النظريات كانت الضربة القاضية للتصور الديني عن العالم وإدعاء ألأديان الإبراهيمية ( اليهودية والمسيحية والإسلام ) خلق أول إنسان (آدم) من قبل خالق بعد نحته من طين ونفخ روحه فيه.
– تبع جهود هؤلاء العلماء جهود أخرى كإكتشافات العالم السير إسحاق نيوتن، وهو عالم إنجليزي يُعد من أبرز العلماء مساهمة في الفيزياء والرياضيات عبر العصور وأحد رموز الثورة العلمية،إنّ كتابه الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية الذي نشر لأول مرة عام 1687، أحتوى على معظم مبادئ الميكانيكا الكلاسيكية. كما قدم نيوتن أيضًا مساهمات هامة في مجال البصريات، وشارك غوتفريد لايبنتز في وضع أسس التفاضل والتكامل.
صاغ نيوتن قوانين الحركة وقانون الجذب العام التي سيطرت على رؤية العلماء للكون المادي للقرون الثلاثة التالية. كما أثبت أن حركة الأجسام على الأرض والأجسام السماوية يمكن وصفها وفق نفس مبادئ الحركة والجاذبية. وعن طريق اشتقاق قوانين كبلر من وصفه الرياضي للجاذبية، أزال نيوتن آخر الشكوك حول صلاحية نظرية مركزية الشمس كنموذج للكون.
– ومن العلماء الذين كان لهم دور في تطوير التصور العلمي عن العالم ،العالم سيجموند فرويد وهو طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث. اشتهر فرويد بنظريات العقل واللاواعي وآلية الدفاع عن القمع وخلق الممارسة السريرية في التحليل النفسي لعلاج الأمراض النفسية عن طريق الحوار بين المريض والمحلل النفسي، له العديد من المؤلفات، ومن أهم كتبه الفلسفية، تفسير الأحلام وقلق في الحضارة ومستقبل وهم وموسى والتوحيد والطوطم والحرام.
– النظرية النسبية للعالم الفذ البرت أينشتاين غيّرت الكثير من المفاهيم بما يتعلق بالمصطلحات الاساسية في الفيزياء: المكان والزمان والكتلة والطاقة. حيث احدثت نقلة نوعية في الفيزياء النظرية وعلم الفلك في القرن العشرين عند نشرها لأول مرة،.
تبع الرعيل الأول من العلماء هؤلاء، إكتشافات وابحاث علماء آخرون في حقول ألبيولوجيا ومن ضمنها علم الجينات وفك الشفرة الجينية، وفي حقل الفيزياء الحديثة تم إكتشاف نظرية الكوانتم وكذلك إكتشافات العلماء في حقول الكيمياء والرياضيات والفلك.
أنّ تاريخ الفكر تحذرنا من الظن أن النظرية العلمية عن العالم كاملة ونهائية بالضرورة لأنّها أفضل ما صيغ حتى الآن. فعلينا أن نتذكر أنّ في قاعدة التعميمات العلمية، أو بلغة التعبير الدارجة، قوانين الطبيعة ما هي إلا فرضيات أُعدت لتفسير التغير الدائم في الأفكار الذي نعظمه نحن من خلال الأشياء الرنانة التي تُطلق على العالم وعلى الكون. وفي نهاية المطاف نرى أنّ السحر والدين والعلم ليست سوى نظريات فكرية.
وبما أنّ العلم حل محل سابقيه فإنّه ذاته ربما يتخلى عن مكانه في المستقبل لصالح فرضية أكمل قد تكون طريقة مختلفة في النظر إلى الظواهر الطبيعية. إنّ تقدم المعرفة عملية لا نهاية لها من التقدم نحو هدف لا يكف عن الإبتعاد عنا. ولا بأس من السعي الذي لا ينتهي لأنّه سيتمخض عن اشياء عظيمة بالرغم من أننا قد لا نستمتع بها. وفي بحار ستسطع نجوم في سماء رحالة المستقبل، اكثر تألقا من النجوم التي تسطع علينا اليوم، ولعل أحلام السحر تتحول في يوم من الأيام إلى حقائق العلوم المستيقظة.
لقد أصبح الإنسان في عصرنا قادرا على التنبؤ بإتجاهات الرياح والسحب المتقلبة وتحكم محدود بها، وتمكن من إكتشاف ألأدوية لكثير من الأمراض وألأوبئة ألتي كانت تقضي عل الجنس البشري بالآلاف كالطاعون والكوليرا والسل، لكن ستبقى يداه الضعيفتان عاجزتين عن إعادة السرعة إلى كوكبنا المتباطيء في مساره الفلكي وعن إعادة الحرارة إلى شمسنا المحتضرة وإلى منع التلوث ألبيئي ألذي يهدد الحياة على كوكبنا، واخيرا قد لا نستطيع منع بعض البشر من وضع نهاية مأساوية لهذا الكوكب بتفجير القنابل النووية التي بحوزتهم أو منعهم من نشر وباء فيروسي يفني البشرية نتيجة لتجارب الأسلحة الجرثومية.
وأخيرا يقارن جيمس جورج فريزر في مؤلفه ” دراسة في ألسحر وألدين ” خيوط السحر والدين والعلم المختلفة التي تتشابك في تاريخ البشر بالشبكات العنكبوتية التي يغطيها الندى فوق حزمة من ألقصب، فحزمة القصب تمثل التصور السحري (ألإحيائي أو الميتولوجي) عن العالم والشبكات العنكبوتية التي فوقها تمثل التصورالديني عن العالم وقطرات الندى فوق الشبكات العنكبوتية تمثل التصور العلمي عن العالم.
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
مصادر البحث:
– الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
– ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين
– دين الإنسان ……………… فراس السواح.
– ويكيبيديا…………………. الموسوعة الحرة.