البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور الإحيائي (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. في هذا الجزء من البحث سنتناول التصور الديني.
تعريف الدين:
هنالك عدة تعريفات للدين وقد أختلف الباحثون في الأديان حول هذه التعريفات وسنتناول أهم هذه التعريفات:
يقول وليم جيمس في بداية كتابه تنوع الخبرة الدينية : ” الدين الذي أعنيه في كتابي هو الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعتبره إلهيا “.
يقول هربرت سبنسر : ” إنّ الأديان على قدر إختلافها في عقائدها المعلنة، تتفق ضمنيا في إيمانها بأنّ وجود الكون هو سر يتطلب التفسير، ولذا فإنّ الدين هو الإعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم “.
ويدور تعريف ماكس موللر (1882-1900)، الفيلسوف ومؤرخ الأديان الألماني، حول الفكرة نفسها فيقول في كتابه نحو علم الدين :
” إنّ الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يُمكن تصوره، وقول ما لا يُمكن التعبير عنه، إنّه توق إلى اللانهائي “.
وهناك إتجاه في التعريف يقوم على فكرة الألوهة، يقول م. رافيل في كتابه مقدمة في تاريخ الأديان : ” إنّ الدين هو إشتراط الحياة الإنسانية بإحساس الإتصال بين العقل الإنساني وعقل خفي يتحكم بالكون، وما ينجم عن ذلك من شعور بالغبطة “.
ويقول ف. شلرماخر (1768-1834) وهو لاهوتي ودارس اديان : ” إنّ الدين هو شعور باللانهائي وإختبار له. وما نعنيه باللانهائي هنا، هو وحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنّما تنبي عن نفسها للمشاعر الداخلية. وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التأملات، فإنّها تخلف في الذهن فكرة ألله. وإنّ الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة ألله إما إلى المفارقة والتوحيد، أو نوع غير مشخص للالوهة يتسم بوحدة الوجود “.
ويرى بعض الباحثين، إنّ فكرة الألوهة إذا أُخذت بمدلولها الضيق فإنّها تترك كثيرا من الأديان خارج دائرة التعريف، وهي الأديان التي تضع في بؤرة معتقدها كائنات روحية من مختلف الأنواع، كارواح الموتى والأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة المختلفة، والتي لا تنضوي تحت مفهوم الآلهة المعتاد.
من هنا يرى أدوارد تيلور (1832-1917) وهو مؤسس الأنتروبولوجيا في بريطانيا، أنّ التعريف الاشمل ينبغي أن يستبدل مفهوم الآلهة بمفهوم ” الكائنات الروحية ” الأكثر عمومية. يقول تيلور في كتابه الحضارة البدائية :
” إنّ المتطلب الاول في الدراسة المنهجية لإديان الشعوب البدائية، هو وضع تعريف بدائي للدين. ذلك أنّ التوكيد على الإيمان بكائن أعلى، من شانه أن يُخرج المعتقدات البدائية من دائرة الدين، لأنّ مثل هذا الإيمان هو مرحلة متطورة من الحياة الدينية. من هنا، فإنّ من الافضل أن نضع حدا أدنى لتعريف يقتصر على الإيمان بكائنات روحية “.
والمقصود بالكائنات الروحية عند تيلور، هو كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق ما لدى البشر. ويدخل في عداد هذه الكائنات كل أنواع الأرواح والعفاريت والجن، ألتي تفترض الذهنية البدائية تداخل عالمها بعالم البشر، كما يدخل في عدادها ايضا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة، فإنّ العلاقة معها تتميز بمحاولة التأثير عليها وإستمالتها للوقوف إلى جانب الإنسان، سواء بالكلمات المناسبة أو الذبائح والتقدمات وما إليها.
وهنا يأتي جيمس فريزر (1854-1941)، الأنتروبولوجي البريطاني المعروف، ليقدم تعريفا مكملا لتعريف تيلور. يقول في كتابه الغصن الذهبي الذي صدر في طبعته المختصرة عام 1922 :
” إنّ صياغة تعريف واحد من شأنه إرضاء كل الآراء المتصارعة حول الدين، هو أمر غير ممكن التحقيق. من هنا فإنّ كل ما يستطيعه الباحث هو أن يحدد بدقة ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على إستخدام هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده لها منذ البداية. وعليه فإننا نفهم الدين على أنّه عملية إسترضاء وطلب عون قوى أعلى من الإنسان، يُعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية.
وهذه العملية تنضوي على عنصرين، واحد نظري والآخر تطبيق عملي. فهناك أولا الإعتقاد بقوى عليا، يتلوه محاولات لإسترضاء هذه القوى. ولا يصح الدين بغير توفر هذين العنصرين، ذلك أنّ الإعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري، أما الممارسة المجردة عن أي إعتقاد فليست من الدين في شيء “.
في كتابه الاشكال البدائية للحياة الدينية يوجه أميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي (1858-1917) نقدا شديدا للتعريف الذي قدمه فريزر، لأنّه يُقصر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلا لكائنات ما ورائية تسمو على الإنسان. ويرى دوركهايم أنّ أمثال هذا التعريف تلقى قبولا في الغرب، بسبب مطابقتها من حيث الاساس لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على أديان عدة واسعة الإنتشار لا تدور معتقداتها حول أرواح أو آلهة من أي نوع، أو أنّ هذه الكائنات لا تلعب فيها إلا دورا ثانويا جدا. فالبوذية مثلا قد شقت لنفسها طريقا مستقلا عن البراهمانية في الهند، إنطلاقا من رفض فكرة الإله، فهي نظام أخلاقي بدون مشرع، وإيمان بدون إله.
إنّ البوذي غير معني إطلاقا بمن خلق العالم وكيف، وجل همه يتركز في الكدح من أجل التحرر وتخليص روحه من سلسلة التقمصات في عالم لا يحمل إلا الألم والشقاء. وهو في كدحه هذا، لا يستعين باي كائن ما ورائي من اي نوع، بل يعتمد على قواه الذاتية وحدها,
أما الآلهة، فليست، في حال وجودها، إلا كائنات أقدر من الإنسان على التحكم في عالم المادة، ولكنها أسيرة مثله في عالم بائس عليها أن يُخلّص نفسها منه.
إنطلاقا من هذا النقد، يرى دوركهايم أنّ أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على جميع الديانات، من اكثرها بدائية إلى أكثرها تطورا وتعقيدا.
وبناءً على ذلك يصوغ إميل دوركهايم التعريف التالي :
” الدين هو نظام متسق من المعتقدات والمماراسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى أنواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى الكنيسة “.
تتبدى الظاهرة الدينية في ثلاثة أشكال يُمكن وصفها، إما بالمراقبة المباشرة أو بالإستماع إلى شهادات الأفراد عن خبراتهم الشخصية. وهذه الأشكال هي :
1- الدين الفردي:
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الانسان في اعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين. فإذا كان لكل بناء سامق اساس يقوم عليه، فإنّ بناء الدين إنّما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية.
2- الدين الجمعي:
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الافراد بنقل خبراتهم المنعزلة الى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود الى تكوين المعتقد، وهو حجر الاساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي ( إضافة الى الطقس والاسطورة ). فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول اجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشّدة لتجربتها.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع.
3- المؤسسة الدينية:
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها، الى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي الى نتائج مفجعة في بعض الاحيان.
تعتمد المؤسسة الدينية على تفسير الدين وعلى تسييس الدين واستخدامه اداة ضغط وتسلط، سواء من قبل السلطة الزمنية كالكنيسة الكاثولوكية وعلى رأسها البابا في الفاتيكان، وكالازهر في مصر، وكالحوزة العلمية في النجف وكنظام ولاية الفقيه في الجمهورية الاسلامية في ايران، أمْ من قبل اية شريحة او فئة تجعل من نفسها قيّما على دين الناس ومرجعا اعلى لتفسيره والعمل بموجبه كالسلفية والوهابية والاخوان المسلمين وحزب الدعوة وداعش (ألدولة ألإسلامية) في العراق وسوريا وجميع الاحزاب الدينية بدون استثناء.
فراس السواح في كتابه دين الإنسان يعرّف الدين كما يلي :
” إنّ الدين ألذي أصفه هنا هو التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، التي تم ترشيدها من خلال قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة، تتمتع بطاقة إيحائية عالية بالنسبة للجماعة “.
هذه القوالب التي ترشد الحس الديني وتجعل من الدين ظاهرة جمعية، يُمكن إرجاعها إلى ثلاثة عوامل التي أدعوها بالمكونات الاساسية للدين وهي :
1- ألمعتقد :
هو اول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الإنفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني.
2- الطقس :
تُولّد الخبرة الدينية المباشرة حالة إنفعالية، قد تصل في شدتها حداً يستدعي القيام بسلوك ما من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيرت التجربة من حالتهما الإعتيادية. ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر كانا من أول اشكال هذا السلوك الإندفاعي الذي تحول تدريجيا إلى طقس مقنن.
كانت الصلاة في المعابد وإنشاد التراتيل فيها هي النموذج الأكثر شيوعاً للطقس المنظم، فإنّ لنا في حلقات الصوفية وما يؤدى فيها من موسيقى إيقاعية ورقص وتواجد، خير مثال على الطقس الحر الذي لا يرتبط بالمعتقدات الجمعية المؤسسة، بل بالخبرة الدينية العميق المباشرة.
3- الاسطورة :
هي حكاية مقدسة مؤيدة بسلطان ذاتي. والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من اية عوامل خارجة عنها، بل من اسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الإنفعالية وغير العقلانية في الإنسان.
تنشأ الأسطورة عن المعتقد الديني، وتكون أمتدادا طبيعيا له، فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبته في صيغة تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الاجيال، كما أنّها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والإنفعالات الإنسانية.
ويبدو أنّ المهمة الأساسية للأسطورة هي تزويد فكرة الالوهة بألوان وظلال حية، خصوصا في المعتقدات التي تقوم على تعدد الآلهة.
أما المكونات الثانوية للدين فهي الأخلاق والشرائع، ففي السياقات التاريخية لأديان الإنسان وضمن ظروف إجتماعية وسياسية معينة، تأتي إلى الدين عناصر لم تكن منه إبتداءً، ولم يكن لها شأن في تأصيل بداياته الأولى.
إنّ علاقة الأخلاق بالدين في المجتمعات التقليدية التي لم تتعقد بناها الإجتماعية والسياسية، تقدم لنا برهانا على أنّ الأصل في الأخلاق إستقلالها عن ألدين.
وأخيرا يذكر فراس السواح أنّ المعتقدات كلها على تنوعها ذات وحدة تتبدى على شكل إحساس بانقسام الوجود إلى مستويين، المستوى الطبيعي والمستوى القدسي، وأن المستوى القدسي يرتبط بالمستوى الطبيعي من خلال قوته السارية، ويؤكد أنّ :
“الدين ليس وهما، والمؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة لأن الخبرة الدينية قد ارتكزت عبر الأزمان على تجربة حقيقية صلبة، وعلى شرط معطى للوجود الإنساني “.
ولكن ما هي هذه القوة السارية في الكون؟
هي الطاقة التي تسري فيه، وفي الإنسان بما أنه مادة.
للبحث صلة
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
مصادر البحث:
– الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
– ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين
– دين الإنسان ……………… فراس السواح.