17 نوفمبر، 2024 11:42 م
Search
Close this search box.

تطور التصورات البشرية عن العالم – 4- السحر في القرآن

تطور التصورات البشرية عن العالم – 4- السحر في القرآن

البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور  الإحيائي  (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. في هذا الجزء من البحث سنتناول ضمن التصور الإحيائي (الميتولوجي)، السحر في القرآن.
يوجد تداخل بين التصورات البشرية الثلاث فالتقسيم المذكور اعلاه ليس حديا أي إما أبيض أو أسود، بل نجد بين هذه المراحل مناطق رمادية أيضا، فعند الإنتقال من الطور السحري (ألإحيائي أو الميتولوجي) إلى الطور الديني نلاحظ هذا التداخل وكذلك فعند الإنتقال من الطور الديني إلى الطور العلمي سنجد ايضا تداخلا بين الدين والعلم، ومن أمثلة ذلك الدين الرائيلي ألتي هي محاولة للتزاوج بين الدين والعلم، وهناك محاولات بائسة لتأويل بعض آيات القرآن وربطها بالإكتشافات العلمية من قبل جماعة ألإعجاز العلمي في القرآن.
في هذا الجزء من البحث سنتطرق إلى موضوع السحر في القرآن كمثال للتداخل بين السحر والدين، وطبعا التداخل واقع بين السحر والدين اليهودي والمسيحي أيضا.
تناولنا كيفية ظهور السحر وتطبيقاته عند الكلام عن التصور الإحيائي (الميتولوجي) وذكرنا أنّ الساحر هو الشخصية المحورية في ذلك التصور، أما الشخصية المحورية في التصور الديني فهو الكاهن أو ألنبي ألذي يدعي بأنّ له إتصال بإله يتلقى عنه الوحي مباشرة أو عن طريق ملاك في حالة النبي وبعض الكهنة، أوشيطان أو تابع من الجن في حالة كهنة آخرين.
عندما تصوّر البشر أن القوى الخارقة للطبيعة لها أثرها في حياة الإنسان عند كل منعطف في الطريق،  أصبحت قوة رجال الدين مساوية لقوة الدولة، واصبح الكاهن أو القسيس او النّبي منذ أقدم العصور إلى أحدثها ينافس الجندي المقاتل في سيادة الناس والإمساك بزمامهم، حتى لقد راح الفريقان يتناوبان ذلك، وحسبنا في التمثيل لذلك أن نسوق مصر، ودولة اليهود وأوروبا في العصور الوسطى كأمثلة.
إن الكاهن او القسيس او النّبي لم يخلق الدين خلقاً، لكنه أستخدمه لأغراضه فقط، كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات؛ فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتية، إنما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع وخوف من الموت وقلق وأمل وشعور بالعزلة؛ نعم إنّ الكاهن او القسيس او النّبي قد أضرّ الناس بإبقائه على الخرافة وباحتكاره لضروب معينة من المعرفة، لكنه مع ذلك عمل على حصر الخرافة في نطاق ضيق، وكثيراً ما كان يحمل الناس على إهمال شأنها، وهو الذي لقّن الناس بداية التعليم والتهذيب، وكان بمثابة المستودع وأداة التوصيل بالنسبة للتراث الثقافي الإنساني المتزايد؛ وكان عزاء للضعيف في استغلال القوي له استغلالاً لم يكن منه محيص؛ كما أصبح الفعل الفعّال الّذي أعان الدين على تغذية الفنون، وتدعيم بناء الأخلاق الإنسانية المترنح وبدعم من القوى العليا؛ فلو لم يجد الناس بينهم كاهناً او قسيسا او نبيّا لخلقوه لأنفسهم خلقاً.
عندما جاهر النبي محمد بدعوته أتهمه قومه بالكهانة والسحر وقالوا بأنّه شاعر مجنون. وكان الناس من قديم الزمان يعتقدون بوجود ارواح غير مرئية، منها طيبة ويستنجدونها ويرجون خيرها، ومنها خبيثة يخافونها ويتقون شرّها. وكذلك العرب كانوا في جاهليتهم يعتقدون بوجود هذه الارواح، ويسمّون الطيبة بالملائكة، ويسمّون الخبيثة منها بالجن والشياطين، وعقيدتهم هذه مشهورة لا تحتاج الى اقامة الدلائل ولا الى ايراد الشواهد، والقرآن اصدق شاهد بها، وقد تفرّع من اعتقادهم بالكهانة، فكان لهم كهّان، وكان الكاهن يخبرهم بالمغيّبات، وكانوا يعتقدون أنّ لكل كاهن تابعا من الجن ياتيه بالخبر من السماء.
فلمّا قام محمّد بدعوتهم الى الاسلام، وهو يريد ان يجمعهم على كلمة واحدة، وينهض بهم نهضة عالميّة كبرى، رأى من اللازم الضروري لنجاح الدعوة ان يُبطل الكهانة، ويجعل خبر السماء مقصورا على الوحي الذي ياتيه به جبريل، لكيلا تقبل العرب إلّا منه ولا تسمع إلّا له.
ولاجل إبطال الكهانة اغلق محمّد ابواب السماء في وجوه الشياطين وملأها حرسا شديدا من الملائكة، وجعل هذه الشهب المتساقطة في الجو رجوما للشياطين تردّهم عن استراق السمع، واخذ الاخبار السماويّة كما هو مذكور في القرآن.
ذُكِرَ السحر في القرآن في الآية  102 من سورة البقرة (( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )).
نستنتج من الآية 102 من سورة البقرة أنّ محمدا كان يعتقد بأنّ الشياطين هم الذين كانوا يعلمون الناس السحر وأنّ مصدر ألسحر هما الملكان هاروت وماروت أللذان أرسلهما ألله ألى بابل لتعليم البشر السحر.
ورد في تفسير أبن كثيرحول الآية  102 من سورة البقرة  مايلي : ”  قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن [ أبي ] بكير ، حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] ، قالوا : ربنا ، نحن أطوع لك من بني آدم . قال الله تعالى للملائكة : هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض ، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا : بربنا ، هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك . فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبدا . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي . فقالا لا والله لا نقتله أبدا . ثم ذهبت فرجعت بقدح خمر تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر . فشربا فسكرا ، فوقعا عليها ، وقتلا الصبي . فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ” ….  انتهى.
إنّ أصل أسطورة هاروت و ماروت فارسية، فهاروت و ماروت أسماء زرادشتية , يلفظان ” هاروفتات و امارتات ، و قد وصلت الينا بعد التعديل على الاسمين كُلاً حسب لغته الدارجة ذاك الزمن، فقد ذُكرت هذه الأسطورة و الملاكين في التلمود بإسم ” عزازيل و شمحازي “وانهما هبطا الى الارض بعد ان ركبت فيهما الشهوة، واشتهى احدهما فتاة اسمها اسطير، ” وهي افروديت ايضاً في اساطير اليونان و عشتار في الاساطير البابلية ” ، ووعدته باعطاء نفسها له إن علّمها الاسم الأعظم الذي يُصعد به الى السماء .. فعلّمها , فخالفت وعدها وتعففت .. فرفعت إلى السماء ووضعها الإله بين النجوم مكافأة لها.
وقد ذكر أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ) قي كتابه فتحُ البيان في مقاصد القرآن، أنّ هاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان وهما سريانيان.
ووردت قصة هاروت وماروت في القصص الهاجادية والأبوكريفا التي اقتبسها محمد  شفهياً عن غير قصد، ظاناً أنها توراتية المنشأ.
ففي كتاب أساطير اليهود والذي جمعه لويس  جينزبرج عام 1909 وضم فيه القصص الهاجادية المبعثرة هنا وهناك في الكتب وتحت عنوان (عقاب الملائكة الساقطين) The Punishment of the Fallen Angels  كتب مايلي :
” عندما بدأ جيل الطوفان بممارسة الوثنية، حزن الرب بعمق، فنهض الملاكان شمحازي وعزازيل، وقالا: ” يا رب العالم، لقد حدث ما توقعناه عندما خُلِقَ العالمُ والإنسان، قائلين: ما هو الإنسان حتى تذكره [المزمور 8: 4] ،فقال الربُّ: “وماذا سيحل بالعالم الآنَ دون الإنسان؟” وعندئذٍ قال الملاكان: “سوف نشغله نحن.” فقال الربُّ: “إنني مدركٌ تماماً للعالم، وأعلم أنكم إن سكنتم الأرضَ، سيسيطر عليكم الميلُ الشرير، وستكونون أكثرَ ظلماً من أيِّ إنسانٍ.” فجادل الملاكان: “امنحنا فقط إذناً بالسكن بين البشر، وسترى كيف سنقدس اسمك.” فخضع الربُّ لرغبتهم، قائلاً: “اهبطا وامكثا بين البشر”.
عندما جاء الملاكان إلى الأرض، ونظرا بناتِ البشر في كل نعمتهن وجمالهن، لم يستطيعا مقاومة عاطفتيهما. رأى شمحازي عذراءَ تدعى إستِهَر، وفقد قلبه لها. وعدته أن تسلمه نفسَها إن علمها أولاً الاسم الفائق الوصف. الذي به يُصْعِد نفسَه إلى السماء. فوافق على شرطها. لكنها ما أن علمته، نطقت الاسمَ، وأصعدت نفسَها إلى السماء، دون تنفيذ وعدها للملاك. فقال الربُ: “لأنها قد حفظت نفسها بعيداً عن الخطيئة، سنضعها بين النجوم السبع، لكي لا ينساها البشرُ.” ووُضِعَتْ في كوكبة الثريا.
رغم ذلك لم يرتدع شمحازي وعزازيل عن الدخول في علاقات مع بنات البشر، ولأول ابنين وُلِدا.  بدأَ عزازيل في اختراع الحليِّ والجواهر التي بها تغوي النساءُ الرجالَ. لذا أرسلَ الربُّ ميطاطرون ليخبرَ شمحازي أنه قد قرر أن يدمر العالم ويجلب عليه طوفاناً. شرع الملاكُ الساقط في النحيب والحزن على مصير العالم ومصير ابنيه: “إذا انهارَ العالمُ، فماذا سيكون لديهما للأكل، هما اللذان يحتاجان يومياً آلاف الجمال، وآلاف الأحصنة، وآلاف العجول؟ “.
 
وورد السحر في سورة الفلق من القرآن ” قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ 5 “.
في تفسير الآية 4 من سورة الفلق يذكر المفسّر ابن كثير ما يلي:
” قَالَ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الطِّبّ مِنْ صَحِيحه : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ سَمِعْت سُفْيَان بْن عُيَيْنَة يَقُول أَوَّل مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ اِبْن جُرَيْج يَقُول حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَة عَنْ عُرْوَة فَسَأَلْت هِشَامًا عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يَأْتِيهِنَّ قَالَ سُفْيَان وَهَذَا أَشَدّ مَا يَكُون مِنْ السِّحْر إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ ” يَا عَائِشَة أَعَلِمْت أَنَّ اللَّه قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اِسْتَفْتَيْته فِيهِ ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدهمَا عِنْد رَأْسِي وَالْآخَر عِنْد رِجْلِي فَقَالَ الَّذِي عِنْد رَأْسِي لِلْآخَرِ مَا بَال الرَّجُل ؟ قَالَ مَطْبُوب . قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ لَبِيد بْن أَعْصَم رَجُل مِنْ بَنِي زُرَيْق حَلِيف الْيَهُود كَانَ مُنَافِقًا وَقَالَ وَفِيمَ ؟ قَالَ فِي مُشْط وَمُشَاطَة . وَقَالَ وَأَيْنَ ؟ قَالَ فِي جُفّ طَلْعَة ذَكَر تَحْت رَاعُوفَة فِي بِئْر ذَرْوَان ” قَالَتْ فَأَتَى الْبِئْر حَتَّى اِسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ” هَذِهِ الْبِئْر الَّتِي أُرِيتهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَة الْحِنَّاء وَكَأَنَّ نَخْلهَا رُءُوس الشَّيَاطِين ” قَالَ فَاسْتُخْرِجَ فَقُلْت أَفَلَا تَنَشَّرْتَ ؟ فَقَالَ ” أَمَّا اللَّه فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَه أَنْ أُثِير عَلَى أَحَد مِنْ النَّاس شَرًّا “.
حسب الروايات الإسلامية فإنّ أبن مسعود كان يرفض إدراج المعوذتين ( سورة الفلق وسورة الناس ) في القرآن لأنّهما من ألأدعية وليستا من الوحي وبالرغم من ذلك تم إدراجهما عند جمع عثمان بن عفان ألقرآن.
للبحث صلة
 
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
 
مصادر البحث:
–         الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
–         ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين.
–         الشخصية المحمدية او حل اللغز المقدّس……… الشاعر العراقي معروف الرصافي.
–         قصة الحضارة …….. ول ديورانت.
–         القرآن.
–         ألأحاديث النبوية.

أحدث المقالات