البشرية عرفت في مسار الزمن، ثلاثة أنظمة عقلية على التوالي، ثلاث تصورات كبرى للعالم:
التصور الإحيائي (الميتولوجي)، والتصور الديني، و ألتصور العلمي. في هذا الجزء من البحث سنتناول ضمن التصور الإحيائي (الميتولوجي) أنواع السحر، وبالتحديد سحر الطقس.
من أهم الأشياء الخاصة بالمنفعة العامة التي يمكن إستخدام الساحر من أجل تحقيقها توفير كميات مناسبة من الطعام، فكل العاملين في تأمين الطعام البشري مثل صيادي البر والبحر، والفلاحين يلجؤون إلى أعمال السحر لتحقيق مختلف غاياتهم، لكنهم يفعلون ذلك لمنفعتهم ومنفعة أهليهم الخاصة كأفراد لا كعمال يعملون لتحقيق الصالح العام.
لكن الأمر يختلف حين يقوم السحرة المحترفون بتأدية طقوس السحر بدلا من الصيادين والمزارعين أنفسهم، ففي المجتمعات البدائية حيث تكون وحدة العمل هي القاعدة، وتصنيف المجتمع في طبقات مختلفة لم يبدأ بعد، يقوم كل من الرجال بدور الساحر، فيتمتم بالتعويذات والتراتيل أملاً في جلب الخير له والأذى لأعدائه.
لكن خطوة كبيرة نحو الأمام تحققت مع ظهور طبقة خاصة من السحرة، أي حين أُفرِد عدد من الرجال بهدف تحقيق الفائدة للمجتمع باسره بفضل مهاراتهم سواء أكان الهدف من تلك المهارة شفاء المرضى، أو التنبؤ بالمستقبل، أو التحكم بأحوال الطقس، أو أي غرض آخر فيه فائدة للمجتمع.
لكن عجز الوسائل التي أتبعها معظم هؤلاء السحرة عن تحقيق أهدافهم يجب ألا يمنعنا من رؤية الاهمية البالغة للمؤسسة ذاتها، فهنا جماعة من الرجال تم إعفاؤهم على الأقل في المراحل البدائية الاولى من ممارسة العمل اليدوي الشاق لكسب قوتهم، ولم يُسمح لهم بالبحث في أساليب الطبيعة السرية فحسب، بل كان هذا متوقعا منهم ويلقون التشجيع على ممارسته، فقد كان من واجبهم وصلب إهتمامهم في الوقت ذاته أن يعرفوا أكثر من غيرهم، وأن يكونوا على إطلاع بكل ما يساعد الإنسان في صراعه المرير مع الطبيعة، ويخفف معاناته ويطيل عمره.
فخصائص الأدوية والمعادن، وأسباب المطر والجفاف والرعد والبرق وتقلبات الفصول وأطوار القمر وحركة الشمس اليومية والسنوية وحركات النجوم وسر الحياة وسر الموت، كل هذه الأشياء أثارت بكل تأكيد فضول هؤلاء الفلاسفة الأوائل وحفزتهم للعثور على حلول للمشكلات التي كانت بلا ريب تلقيها عليهم طلبات زبائنهم الملحة بأكثر صورها العملية.
فالزبائن لم يكونوا ينتظرون منهم فهم عمليات الطبيعة الهائلة وحسب، بل تنظيمها والتحكم بها أيضا لمنفعة الإنسان، وما كان بالإمكان تجنب فشل محاولاتهم الأولى، فالإقتراب البطيء غير المتناهي من الحقيقة ينطوي على الإستمرار في وضع الفرضيات وإختبارها وقبول تلك التي بدا آنذاك تتفق مع الوقائع ورفض الفرضيات الأخرى.
فالآراء حول مسببات الطبيعة التي حملها الساحر البدائي تبدو لنا اليوم بلا شك خاطئة وسخيفة لكنها كانت في أيامها فرضيات مشروعة، مع أنّها لم تثبت نجاحها في إختبار التجربة العملية. كانت السخرية واللوم جزاء الأوفى لا لأولئك الذين وضعوا تلك النظريات البدائية، بل لأولئك الذين أصروا على التمسك بها بعد ظهور نظريات أفضل منها.
ومن المؤكد أنّ أولئك المشعوذين البدائيين كانوا أكثر الناس حرصا على البحث عن الحقيقة، فالظهور بمظهر العارف الخبير على الأقل كان في مقدمة الأولويات، فخطأ واحد قد يكلفهم حياتهم، وهذا دون شك حملهم على ممارسة الدجل بهدف إخفاء جهلهم، لكن هذا زودهم أيضا باقوى دافع لإستبدال المعرفة المزيفة بالمعرفة الحقيقية، لإنّك إذا أردت التظاهر بمعرفة شيء، فإنّ أفضل طريقة على الإطلاق هي أن تعرفه بالفعل.
فمهما كان رفضنا لخداع السحرة عادلا، وشجبنا للخداع الذي مارسوه على البشرية مبرراً، فإنّ المؤسسة الأصلية لهذه الفئة من الرجال عادت على البشرية بخير غير محدود، فهي لم تكن الأصل الذي أنحدر منه الأطباء والجراحون وحسب، بل الباحثون والمكتشفون في كل فرع من فروع العلوم الطبيعية، فالسحرة بادروا إلى العمل الذي حوله خلفاؤهم منذ ذلك التاريخ إلى مسائل مفيدة وعظيمة في العصور اللاحقة.
أما إذا كانت البدايات هزيلة وضعيفة فهذا بسبب المصاعب الحتمية التي بالطريق إلى المعرفة، لا بسبب العجز الطبيعي أو الدجل المتعمد عند أولئك الرجال أنفسهم.
ومن أهم الأشياء التي تناط بالساحر لمنفعة القبيلة التحكم بالطقس وضمان هطول كميات وافرة من الامطار، فالماء عصب الحياة وكميته تعتمد في معظم البلدان على زخات المطر، فبدون المطر تذبل النباتات ويعاني الإنسان والحيوان من العذاب ومن ثم الموت. لذا كان ساحر المطر في المجتمعات المتخلفة شخصية بالغة الأهمية، وكانت هناك فئة خاصة من السحرة متخصصة في التحكم بكميات الأمطار التي تجود بها السماء.
أما الأساليب التي يحاول بها السحرة ممارسة عملهم فتقوم عادة وليس دائما على مبدأ سحر التماثل، فإذا أرادوا الإستمطار رشوا الماء مقلدين السحب، أما إذا أرادوا إيقاف المطر وجلب الجفاف، أبتعدوا عن الماء ولجؤوا إلى الدفء والنار بهدف تجفيف الرطوبة الزائدة، ولا تقتصر هذه المحاولات على السكان العراة في المناطق الحارة الرطبة مثل أواسط أستراليا وبعض الأجزاء الشرقية والجنوبية من أفريقيا حيث تضرب الشمس بأشعتها اللاهبة الأرض العطشى والمتشققة من الماء والسماء الزرقاء الصافية على مدى أشهر طويلة من السنة، فهؤلاء معروفون أو كانوا معروفين لدى الناس المتحضرين ظاهريا في مناخ أوربا الرطب ايضاً.
فعلى سبيل المثال في قرية على مقربة من دوربات في روسيا يعتلي ثلاثة من الرجال أشجار التنوب في خميلة قديمة مقدسة عند إنحباس المطر، فيضرب أحده بمطرقة على إبريق معدني أو وعاء صغير مقلدا الرعد، والثاني يضرب عود نار بآخر ليتطاير الشرر مقلدا البرق، وأما الثالث، وأسمه ” ساحر المطر ” فيحمل بضعة أغصان يرش بها الماء من وعاء على جميع الأطراف.
وللإستسقاء، ولوضع نهاية للجفاف، تتوجه النسوة والفتيات في بلوسكا ليلا إلى حدود القرية وهن عاريات فيسكبن الماء على الأرض.
ويصف المقريزي، المؤرخ العربي، طريقة لإيقاف المطر يُقال إنّها أُستخدمت في قبيلة بدوية أسمها القمر في حضرموت حيث يقطعون غصنا من شجرة معينة في الصحراء ويضرمون به النار ثم يرشون الغصن المشتعل بالماء، بعد ذلك تخف حدة المطر تماما مثلما يختفي الماء حين يسقط على الغصن المتوهج.
بعض الأنجميين في ماينبور ” ولاية هندية شمالية تقع على الحدود مع ميانمار ” يقومون بإحتفال مشابه إلى حد ما لتحقيق الهدف المعاكس، أي لإنتاج المطر، فزعيم القرية يضع غصنا مشتعلا على قبر رجل مات محترقا ثم يطفيء الغصن بالماء وهو يدعو بنزول المطر، وهنا يتعزز إطفاء النار بالماء وهو تقليد للمطر بتأثير الميت الذي سيكون حريصا على هطول المطر لتبريد جسمه المحترق وتخفيف آلامه لأنّه مات محترقا.
وهذه الممارسة سحرية فيما عدا الدعاء فيها فهي ممارسة دينية، وكمثال آخر على تداخل السحر والدين نجده في صلاة الإستسقاءالذي يمارسه المسلمون.
ويتم في صلاة الإستسقاء طلب السقي من الله للبلاد والعباد بالصلاة و الدعاء والاستغفار، وهي مشروعة بسنة ألنبي محمد، فعند قلة الأمطار وانحباسها ،فلا بد للناس أن يستغفروا الله، تصديقا للآيات 10-12 من سورة نوح: ” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا”.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( خَرَجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ يَسْتَسْقِي, فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى اَلسَّمَاءِ تَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ, لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ, فَقَالَ: ارْجِعُوا لَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ، أي أنّ سليمان قال للنملة: عودوا إلى مسكنكم ولا داعي لدعاء الله فقد انزل الله المطر بدعائي.
أنّ الغرض من صلاة الإستسقاء هو لتسهيل السيطرة بهذه الصلاة على عقول الناس وتدجينها بأن عدم نزول مطر هو بسبب الذنوب وهكذا حتى يتمكن رجل الدين من السيطرة على عقول الناس، ويستمر المؤمن بالإحساس بالذنب.
نلتقيكم في مدارات تنويرية أخرى.
مصادر البحث:
– الطوطم والحرام …………. سيجموند فرويد.
– ألغصن الذهبي……………. جيمس جورج فريزر – دراسة في ألسحر وألدين.
– دين الإنسان ……………… فراس السواح.
– القرآن.
– ألأحاديث النبوية.