22 ديسمبر، 2024 5:35 م

تصدير الديمقراطية الأمريكية

تصدير الديمقراطية الأمريكية

وصف نعوم تشومكي السياسة الامريكية بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 بقوله ” العدو الأضعف لا بد أن يسحق سحقا، لا ان يهزم فقط! اذا اردنا تلقين العالم درسا في النظام العالم الجديد.. فنحن السادة وأنتم ماسحو احذيتنا”. صحيفة ذي غارديان – لندن 25 مارس 1991.
أقول: أليس من الغرابة ان تعزز الديمقراطية الامريكية في العراق النزعة الدينية والطائفية والقومية والعشائرية المنحرفة على حساب المواطنة؟
في مقابلة للسفيرة الأميركية في بغداد ألينا رومانوسكي بتأريخ 16/5/2023 مع قناة (سكاي نيوز عربية) تحدثت السفيرة عن عشرات المشاكل في العراق ومنها الميليشيات المسلحة وضرورة تصفيتها وغسيل الأموال، وتهريب العملة، ومشكلة الجفاف، والعلاقات مع دول الجوار، وحزب العمل الكردي، والاتفاقية الستراتيجية مع العراق، والإستثمار، وآفة المخدرات، والمشاريع التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق، ومشكلة المناخ، والسيادة الوطنية، والتدخلات والإعتداءات التركية والايرانية على العراق، ومكافحة الإرهاب، وامور اخرى، ولعل أهم ما جاء فيها ان الولايات المتحدة لن نتسحب من العراق أبدا، وهذا تحذير واضح لما يسمى بمحور المقاومة، أو محور المقاولة، وهو الأصح.
لكن المثير في حديث السفيرة انها لم تتطرق مطلقا الى مسألة الديمقراطية ولا حرية التعبير ولا التظاهرات ووسائل القمع التي تمارسها الحكومة وميليشياتها تجاه المتظاهرين!!!
ما لا يقبل الجدل ان النزعات القومية والدينية والمذهبية أمر طبيعي عند الشعوب، ان كانت بالطبع تتوافق مع القوانين والأعراف السائدة ولا تتجاوز الخطوط الحمراء من خلال تهميش بقية المواطنين المخالفين، فالعرب مثلا يعتزون بقوميتهم العربية، وهذا ما يقال عن الأكراد وبقية الأقليات، ولا شائبة على هذا الإعتزاز، لكن عندما تهمش القومية الكردية والأقليات العرقية من قبل الطبقة الحاكمة لسبب ما، فهنا يكمن الخلل الذي يتطلب العلاج قبل أن يتحول الى كارثة وطنية تضر الجميع. على سبيل المثال يعتز الأكراد بقوميتهم، وهذا أمر مألوف، وقبل التسعينيات من القرن الماضي، عاش الأكراد كمواطنيين عراقيين ومنحوا من الحقوق ما لم يحظى به أكراد المنطقة، ولم تكن فكرة الإنفصال عن الدولة العراقية يدور في مخيلتهم، اللهم إلا بعض الشواذ من السياسيين، ولكن بعد فرض الحظر في خطوط الطول والعراق، ومشروع بايدن (الرئيس الحالي) بتقسيم العراق، تمدد الحلم الكردي لتحقيق الإنفصال، مع ان التجربة السابقة في جمهورية مهاباد تعتبر موعظة مهمة لمن يفكر بالإنفصال، سيما ان الدولة الكردية المرتقبة سوف لا يعترف بها العالم محاباة للحكومة العراقية وتجنب خلق المشاكل معها، والحفاظ على مصالحها مع دولة تمتلك خزين هائل من النفط، علاوة على موقعها الستراتيجي. من جهة أخرى ان الدول التي فيها مواطنين أكراد سترفض الدولة الكردية المرتقبة وتحاربها لأنها تهدد أمنها القومي، من خلال تعزيز نزعة الإنفصال عند مواطنيها الاكراد. لذلك ستتآمر على الدولة المرتقبة من خلال إثارة الفتن والدسائس، ولا تتركها الا وقد سقطت جثة هامدة، سيما ان الأكراد أنفسهم مشتتة أفكارهم السياسية، ونظرة خاطفة الى الخلاف بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (الحزب الديمقراطي الكردستاني) و(الإتحاد الوطني الكردستاني) يؤكد هذا الأمر، علاوة على الأحزاب الكردية الأخرى في الإقليم، فالأمر لا يتعدى المصالح الحزبية والفئوية. الأكراد اليوم لهم رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية والعدل ويتحكمون بأهم مفاصل الدولة، وهم يحصلون على ما يزيد عن 12% من ميزانية العراق، علاوة على واردات نفطهم المصدر لدول أخرى، ناهيك عن الأموال الناجمة عن المنافذ البرية والجوية في الإقليم، والتي لا علاقة للحكومة المركزية بها، فلماذا يخسروا هذه الإمتيازات على مصير مجهول في حال الإنفصال؟
تأطير فكرة الإنفصال
قدم السيناتورعن الحزب الديموقراطي (جوزيف بايدن) سنة 1991 خلال ولاية جورج هيربرت بوش مشروعا حول الشرق الأوسط الجديد يتضمن تقسيم العراق، نشرته مؤسسة (راند ) الأمريكية، مع تعليق مديرها (فاولر) تساءل فيه “هل سيبقى العراق موحداً عام 2002 ؟ وسرعان ما تطورت الفكرة، حيث عبر عنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بالقول” إن تقسيم العراق هو المخرج الوحيد من المأزق”. وانبرى عدد كبير من المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات الأمريكية يروجوا الى فكرة تقسيم العراق، ومنها تصريح جوزيف أدوردز من معهد ( بروكينكز ) الإستراتيجي” إذا لم يتم التخطيط جيداً لعملية تقسيم العراق فإن ذلك سيؤدي الى حالة عدم إستقرار بل وسيهدد بإنتشار الفوضى”. مع ان بايدن عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة، لم يتحدث مطلقا عن مشروعه (تقسيم العراق). حتى الرئيس بوش تغيرت بوصلة تفكيره، فقد جاء في صحيفة نيويورك تايمز في 2ك2/3200 بأن خطة بوش لاحتلال العراق حددت هدفين” هما الحفاظ على وحدة العراق وسلامته الاقليمية”.
كما ذكر جيف سيمونز في كتابه (عراق المستقبل) انه لو تم هذا الأمر” سيصبح العراق أكثر دولة بيعت على سطح الأرض”. الحقيقة ان طروحات التقسيم بعثت الإنتعاش في مخيلة اكراد العراق للأنفصال عن العراق، رغم المخاطر التي ستلاحقهم لو نفذوا فكرة الإنفصال.أخذهم الحلم بعيدا عن الواقع، ولم يدركوا انه مجرد وهم، وربما يتحول الحلم الى كابوس. كما قال المتنبي.
ليس كل ما يتمناه المرء يدركه… تجري الرياح بما لا تشتهية السًفُن
وكانت تجربة الإستفتاء التي قام بها السيد مسعود برزاني للإنفصال عن العراق درسا وموعظة مهمة، لا يمكن تناسيها أو التفكير فيها، فقد كان رفض الإستفتاء مطلقا على كافة الأصعدة الوطني والإقليمي والعالمي، بل حتى الأكراد وان كانت الغالبية مع الإنفصال لكن نسبة غير قليلة منهم رفضته.
أن الأتجاهات الفكرية بشكل عام والسياسية بشكل خاص غالباً ما تتلبس مفاهيم ومصطلحات ومفردات تتوجس فيها إشعاعا معنوياً مركزاً تندفع به نحو مضامين جانبية تضيف لرصيدها المعنوي زخما أكبر من الرصيد الفعلي، وهذا شأن العراقيين الذي وجدوا في تغيير النظام السابق فرصة ذهبية لتعديل المسارات الخاطئة وتوجيهها الوجهة الصحيحة للتعويض عن السنوات السابقة والتي وأدت الكثير من احلامهم الوردية وحولتها الى كوابيس دموية بسبب الحروب التي خاضتها البلاد والحصار الأقتصادي الرهيب الذي كبت على انفاس العراق لمدة عشر سنوات تقريباً واغرق البلد في الكثير من العلل واهمها الأقتصادية بعامليها المادي والبشري.
كان الكثير من العراقيون يتمنون ان يكون التغيير الحاصل نتيجة لأرادة العراقيين انفسهم مع قبول حد أدنى من الدعم الخارجي، بدلاً من ان تنقلب المعادلة رأساً على عقب لتصبح القوى الخارجية هي الفاعل الأول والأخير في التغيير، والأرادة الداخلية معدومة أو مثلتها قوى غريبة ومغتربة عن الوطن غادرته من عقود، ولاتفقه عنه شيئاً، وقد صاحبت قوات الأحتلال كتابع ذليل بغية الحصول جزء من الكعكة العراقية المغمسة بدماء العراقيين أو شهوة جامحة للثأر والأنتقام من القوى المناهضة لها، وقد
سمى المحلل الستراتيجي (دافيد برات) المعارضون العراقيون في الخارج بـ” الاوغاد الذين يريد بوش ان يحلهم محل صدام حسين”. ( الصنداي هيرالد/ اسكلندا في 22ايلول 2002). وقال جيف سيمونز ” ليس هناك زعيما واحدا من المعارضة مؤهل ليحل محل صدام حسين”. خذ هذا النموذج من عراب الإحتلال، فقد سئل الجلبي في لقاء تلفزيوني بشأن كذبته حول امتلاك العراق أسلحة التدمير الشامل التي مهدت لأحتلال العراق فأجاب بصفاقة؟ فأجاب: ما أهمية ذلك سواء كانت موجودة أو لا! لقد غيرنا النظام!
صدق برنارد شو بقوله ” لا تصلح الديمقراطية لمجتمع جاهل، لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصير الأمة”.
للحديث بقية بعون الله.
علي الكاش