17 نوفمبر، 2024 1:20 م
Search
Close this search box.

تشييد المسجد من أهم دعائم الدولة الإسلامية في المدينة

تشييد المسجد من أهم دعائم الدولة الإسلامية في المدينة

كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام، التي طالما حُوربت، ولتقام فيه الصلوات، التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاثة أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة والجدران ـ التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً ـ باللبن الذي يعجن بالتراب، ويسوى على أشكال أحجار صالحة للبناء، وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل كانت تسمى الصفة أما باقي أجزاء المسجد، فقد تركت مكشوفة بلا غطاء، وأما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية، كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له: باب الرحمة، أو باب عاتكة.
ومن أهم الفوائد والدروس من بناء المسجد:
أ ـ المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه.
ـ قال تعالى: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة، آية : 108).
ـ وقال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (النور، آية : 36 ـ 38).
ب ـ المسجد رمز لشمولية الإسلام:
ـ حيث أُنشيء ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين، وذكرهم لله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده، وشكره على نعمه عليهم، يدخله كلُّ مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته، ولا يضاره أحد مادام حافظاً لقداسته، ومؤدياً حق حرمته.
ـ كما أنشىء المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، والوافدين عليه طلباً للهداية، ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
ـ وهو قد أنشىء ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حثَّ القرآن الكريم على النظر فيها، ليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم، وثمرات عقولهم، ومعهداً يؤمه طلاب العلم من كل صوب ليتفقهوا في الدين، ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره مِنَّة أحد عليه، فينهل من رفده، ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد يتخرج، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحته دروس الدعوة إلى الله، فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها، فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية، لتستضيء بأنوارها.
وكم من إعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر وفد عليه فدخله، ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه، وكأن على رؤوسهم الطير فسمع معهم، وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم وسلوكه الذي سلك، فآمنوا بدعوته واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي.
ـ وهو قد أنشىء ليكون قلعة الاجتماع إذا استنفروا، تعقد فيه أولوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات، للتوجه إلى مواقع الأحداث وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفىً يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد، ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عيادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب، تقديراً لفضلهم.
ـ وهو قد أنشىء ليكون مركزاً لبريد الإسلام، منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تُتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً، وفيه تُتلقى وتُقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد، ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
ـ وهو قد أنشىء ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويراقبها، ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده، من شراذم اليهود، وزمر المنافقين، ونفاقات الوثنية، الذين انغمسوا في الشرك، فلم يتركوه ليتجنب المجتمع المسلم عاقبة كيدهم، وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخيانتهم.
ج ـ التربية بالقدوة العلمية:
من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل الطين على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من المسلمين، لا يطلب إلا ثواب الله، فقد كانت مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاض بعملية البناء كاملة، وقد دُهش المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علته الغيرة، فتقدم أسيد بن حُضير رضي الله عنه ليحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أعطينه، فقال: اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني، وقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، فازدادوا نشاطاً، واندفاعاً في العمل.
إنه مشهد فريد من نوعه، ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمونه على المشاركة أحياناً بالعمل، لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف، ووسائل الإعلام كلها، بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه، وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء، وأنشدوا هذا البيت:
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذاك منا العمل المُضلّلُ
إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، وإنما تتم من خلال العمل الحيّ الدّؤوب، والقدرة المصفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها، إنما تتم في هذا المجتمع الجديد، والدولة التي تُبنى، وكأنما غدا هذا الجمع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً وقلباً واحداً
فحمل التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كان له مكانة عظيمة في المجتمع المدني، لكنه أصبح لا يذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا بقوله تعالى:” مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ” (النحل، آية : 96).
د ـ الاهتمام بالخبرة والاختصاص:
أخرج الإمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي، قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: «قرّبوا اليمامى من الطين، فإنه أحسنكم له مسيساً»، وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين»، وأخرج ابن حيان عن طلق، قال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن أخلط لهم الطين فأنت أعلم به»، فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوافد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها، وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق.
هـ ـ شعار الدولة المسلمة:
إن أذان الصلاة شعارٌ لأول دولة إسلامية عالمية “الله أكبر، الله أكبر” إنها تعني أن الله أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره، “أشهد أن لا إله إلا الله” أي: لا حاكمية ولا سيادة ولا سلطة، إلا لله رب العالمين “إن الحكم إلا لله” فمعنى لا إله إلا الله لا حاكم ولا آمر ولا مشرع إلا الله “أشهد أن محمداً رسول الله” أسلمه الله تعالى القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضٍ بها إلى أن يكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنة، ويعني الاعتراف لرسالة الله بالرسالة، والزعامة الدينية والدنيوية والسمع والطاعة له.
“حيَّ على الصلاة.. حيَّ على الفلاح” أقبل يا أيها الإنسان للانضواء تحت لواء الدولة التي أخلصت وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية “قد قامت الصلاة”، وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العبادات، لأنها عماد الدين كله، ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر العبادة بمعناها الواسع، التي تعني الخضوع والتذلل والاستكانة، فهو خضوع ليس بعده خضوع فكل طاعة لله على وجه الخضوع والتذلل عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذللاً.
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (غافر، آية : 66).
وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله، وسيادة الشرع، سقوط الطواغيت، وقوانينهم وأنظمتهم وشرائعهم، بـ “حيَّ على الفلاح.. قد قامت الصلاة” يشير إلى أنه لا قيام للصلاة، ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد قامت تحت سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان والإقامة، وليركعوا ويسجدوا لله رب العالمين.
إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لا يُعبد في الأرض حق عبادته، إلا في ظل دولة قوية تحمي رعاياها من أعداء الدين، ثم تتكرر كلمات الأذان: الله أكبر.. الله أكبر للتأكيد على المعاني السابقة.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها،82- 89
محمد قلعجي، قراءة سياسية للسيرة النبوية ، ص: 114.
أمين دويدار، صور من حياة الرسول، ص: 261.
علي معطي، التاريخ السياسي والعسكري، . ص: 158.
محمد رضا، محمد رسول الله، ، ص: 143.
محمد الصادق، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3/ 33).

أحدث المقالات