23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

تشيخوف و غوركي

تشيخوف و غوركي

اسمان معروفان للقارئ العربي بشكل جيد بين الادباء الروس الكبار , بل يوجد في المكتبة العربية كتاب بترجمة جلال فاروق الشريف صادر عن دار اليقظة الشهيرة آنذاك في دمشق عام 1953 بعنوان – ( مراسلات غوركي وتشيخوف ) , واعيد طبعه عام 1983 في دمشق ايضا ( انظر مقالتنا بعنوان – جلال فاروق الشريف والادب الروسي ) , الا ان القراء العرب ينظرون اليهما – بشكل عام – على انهما غير قابلين للمقارنة في كل المقاييس , و البعض منهم ( وهم الاكثرية ) يرون , ان غوركي هو الاعلى مقارنة بتشيخوف , اذ انه بالنسبة لهؤلاء القراء العرب مؤلف رواية – ( الام ) , بينما لا يرتبط تشيخوف بعمل ابداعي بهذا السطوع المحدد بالنسبة لهم . وفي كل الاحوال , فان شهرة غوركي أكبر من شهرة تشيخوف في عالمنا العربي , ومؤلفاته المترجمة اوسع انتشارا من مؤلفات تشيخوف المترجمة , وكل ذلك طبعا نتيجة تداخل الادب الروسي بمسيرة الحركة السياسية في مجتمعاتنا العربية ( انظر مقالتنا بعنوان – الادب الروسي في الوعي الاجتماعي العراقي ) , وأذكر مرة , اني شاركت بحديث جرى بالصدفة عن تشيخوف وغوركي مع أحد معارفي العراقيين , فقال لي (غاضبا!!!) , كيف يمكن مقارنة غوركي ( وأسماه ابو الواقعية الاشتراكية ) بتشيخوف البائس هذا؟ ثم امطرني بسيل من الآراء والاحكام حول الادب الروسي وأعلامه, وحذرني في نهاية حديثه قائلا , انه يجب ان اكون حذرا في اقوالي وكتاباتي عن الادب الروسي , والا , فانني يمكن ان اتحول الى ( باسترناك جديد ) , ولم افهم فحوى هذا التحذير ولا جوهره ولا علاقة باسترناك الرائع بكل هذا الموضوع, ولم أسأله تفاصيل ذلك , أذ أني ( لذت بالصمت وانا مبتسما!) امامه ليس الا , , كما أفعل عادة مع هؤلاء الاشخاص , الذين ( لا يعرفون , ولا يعرفون انهم لا يعرفون !) , وما أكثرهم حولنا في عالمنا العربي مع الاسف .
تشيخوف وغوركي – موضوع مهم في علم الادب المقارن و تاريخ الادب الروسي بشكل عام , وهو موضوع واضح المعالم بالنسبة للباحثين الروس , لأن غوركي نفسه قد حدد موقعه الحقيقي في هذه المقارنة , اذ انه ظهر في مسيرة الادب الروسي وبرز فيها بعد تشيخوف , ونجد في اول رسالة كتبها غوركي لتشيخوف جملة دقيقة يقول فيها غوركي , انه معجب به منذ نعومة أظفاره , وهناك في مذكرات أحد معارف غوركي اشارة , الى انه ( اي غوركي ) عرض له في شبابه قصة قصيرة لتشيخوف , منشورة في احدى المجلات الفكاهية بداية الثمانينات , وهي من قصص تشيخوف المبكرة جدا , وقال غوركي له ما معناه , انه يتعلم منها . وتشيخوف كان معجبا بغوركي ايضا , وقد أشار اليه في الكثير من رسائله الى الآخرين , وهناك عدة بحوث بالروسية تتناول اعجاب تشيخوف بمسرح غوركي و نشاطه الابداعي عموما , وكذلك بشخصيته وعصاميته, على الرغم من ان اسلوبهما الفني مختلف تماما , وتوجد في احدى رسائل تشيخوف الى غوركي تفصيلات دقيقة وجميلة حول ذلك , اذ اخبره مرة , انه يكتب جملة – ( جلس الرجل على العشب ) , اما هو , اي غوركي , فانه يكتب نفس هذه الجملة بشكل مطول جدا , يصف فيها كيف ان الرجل يجلس ببطء ويتلفّت وينظر حوله بامعان …الخ , ويقول تشيخوف , ان هذا الوصف يشتت ذهن القارئ , ولا يجعله يصل الى الفكرة التي يريد الكاتب ايصالها له .
لقد توفي تشيخوف عام 1904 , وبالتالي , فانه لم يعاصر مسيرة غوركي لاحقا , وكيف ساهم في مسيرة الحياة السياسية الروسية وكل الاحداث الكبيرة في تاريخ روسيا العاصف من ثورة 1905 والحرب العالمية الاولى وثورة اكتوبر 1917 وعلاقة غوركي مع لينين ( التي ابتدأت قبل ثورة اكتوبر ومرّت بمراحل متشابكة ومعقدة ) و علاقته مع ستالين بعد تأسيس الاتحاد السوفيتي , هذه العلاقة التي يمكن ان نسميها ( غير السلسة ) ان صح التعبير . وكل هذه الجوانب حول غوركي لازالت غير واضحة المعالم للقارئ العربي , ولهذا , فان القارئ العربي لا يستوعب المقارنة بين هذين الاديبين , بل وحتى لا يتقبلها , كما هو حال صاحبنا العراقي , الذي أشرت اليه في بداية مقالتي , اذ لا يجد التشابه بينهما , ولا يفهم امكانية المقارنة بينهما . ان موضوع تشيخوف وغوركي حيوي جدا في روسيا , ويمكن على سبيل المثال الاشارة الى موضوع طرحه احد الباحثين الروس عام 2015 ليس الا , وكان بعنوان ( تشيخوف وغوركي ضد تولستوي ) , بل ان ميرشكوفسكي ( انظر مقالتنا بعنوان – الاديب و الفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي ) قد كتب بحثا معمقا في وقته , ذكر فيه ان تشيخوف وغوركي أقرب الينا ( وحسب طاقتنا , كما يقول ) من دستويفسكي وتولستوي ( واللذان هما اعلى من طاقتنا ) , وذلك لان تشيخوف وغوركي يعكسان حاضرنا , اما دستويفسكي وتولستوي فانهما يعكسان الماضي والحاضر والمستقبل , وهي افكار فلسفية عميقة وممتعة تستحق التأمل فعلا , ولا يمكن ايجاز كل ذلك ضمن هذه السطور . وهذا الموضوع حيوي ايضا بالنسبة لاوربا ايضا , وخصوصا بالنسبة للموقف من غوركي بالذات , وذلك لان اوربا تتابع بدقة ما يجري في الفكر الروسي , ودراسة غوركي ترتبط بشكل مباشر بهذه المتابعة الفكرية ولحد الان. وباختصار شديد , يمكن لنا ان نقول – ختاما لهذه المقالة – ان هذا الموضوع يستحق ان نكتب عنه بتفصيل و ان ندرسه بعمق و من كافة الجوانب , كي لا تتكرر تلك الآراء الساذجة عند بعض القراء العرب …