18 ديسمبر، 2024 10:08 م

تشيخوف و الفيلسوف شيستوف

تشيخوف و الفيلسوف شيستوف

كتب الفيلسوف الروسي شيستوف حول ابداع تشيخوف مقالة شهيرة له في تاريخ النقد الادبي الروسي عنوانها – ( ابداع من لاشئ), ولازال هذا القول (الغريب او غير المفهوم للوهلة الاولى!) قائما في النقد الادبي الروسي ( وغير الروسي ايضا ) حول تشيخوف بشكل او بآخر. نحاول في مقالتنا هذه التوقف عند هذه النقطة وتوضيحها- من وجهة نظرنا – للقارئ العربي انطلاقا من ضرورة التعمق في دراساتنا لاديب عالمي كبير مثل تشيخوف واهميته في تاريخ الادب الروسي والعالمي. ض.ن.
تشيخوف – كاتب معروف طبعا لنا ( رغم اننا لا نعرفه بشكل متكامل الابعاد , ولا نستوعب مثلا سبب استمرار مسيرته في العالم لحد الان ),
أمٌا شيستوف فانه يكاد ان يكون مجهولا تقريبا لنا, رغم ان المهتمين العرب بالشأن الفلسفي وتاريخه واعلامه تحدثوا عنه هنا وهناك , لهذا فاننا نبتدأ مقالتنا اولا بالكلام الوجيز عن شيستوف , ثم ننتقل الى فحوى مقالته ذات العنوان المشار اليه اعلاه.
ولد ليف شيستوف عام 1866 في الامبراطورية الروسية , وهرب من روسيا السوفيتية مع عائلته بعد ثورة اكتوبر 1917 كما هو حال الكثير من المثقفين آنذاك , واستقر في فرنسا , وتوفي فيها عام 1938 ودفن هناك .
شيستوف فيلسوف قبل كل شئ , وقد وضع بصماته الفكرية والفلسفية حتى على مسيرة الفلسفة الوجودية في اوربا , ولكنه كان لصيقا بالادب ان صح التعبير . اول كتاب اصدره بروسيا في هذا المجال ( اي الفلسفة والادب) كان عام 1898 و بعنوان – (شكسبير وناقده برانديس) , وصدر كتابه الثاني بعد سنتين (في عام 1900) وكان بعنوان – (الخير والشر في تعاليم تولستوي ونيتشه) , ثم بدأ بنشر فصول في مجلة ( عالم الفن ) الروسية حول علاقة دستويفسكي ونيتشه واصدرها في ما بعد بكتاب مستقل تحت عنوان – (دستويفسكي ونيتشه) . تشير المصادر الروسية الى ان شيستوف كان مهتما بتشيخوف ويتابع ابداعه , وان تشيخوف نفسه ايضا كان يتابع نشاط شيستوف الفكري , وقد انعكس كل ذلك في مراسلات مدونة ومنشورة بين الاصدقاء المعاصرين لهما ( لا مجال لذكرها هنا ), الا انهما لم يلتقيا معا , رغم ان ذلك اللقاء كان يمكن ان يحدث على وفق تلك الرسائل في عام 1902 ( كان تشيخوف آنذاك مريضا و كان مضطرا ان يعيش في مدينة يالطا بالقرم) , حسب هذه المراسلات المتبادلة بين هؤلاء الاصدقاء. لقد كتب الفيلسوف شيستوف مقالته التي أشرنا اليها عام 1905 , اي بعد وفاة تشيخوف عام 1904 مباشرة , اذ كانت هذه المقالة جاهزة في ذهنه واقعيا, وهو ما يؤكد اشارتنا في اعلاه على اهتمامه ومتابعته لنتاجات تشيخوف. لقد تم نشرالمقالة في كتاب شامل صدر عن تشيخوف عام 1905 في الذكرى الاولى لرحيله .
مقالة شيستوف تتوزع ضمن ثمانية اجزاء , كل جزء منها يقف تحت رقم خاص به . في الجزء الاول يشير شيستوف – ( الى ان وفاة تشيخوف تسمح لنا ان نتكلم عنه بحرية ) , ويقصد طبعا الكلام عنه بشكل كامل بغض النظر عن تعددية آراء النقاد حول ابداعه , ثم يستعرض تلك الآراء التي تحمل تناقضات واختلافات حادة بشأن ابداع تشيخوف , ويتوقف تفصيلا عند آراء وافكار الناقد الروسي ميخايلوفسكي , الذي كان آنذاك من أبرز النقاد الروس , ويتحدث بعدئذ عن المقارنة بين تشيخوف وموباسان , ويختتم هذا الجزء بالاشارة الى ان تشيخوف ( ذهب ابعد جدا من موباسان ) , رغم ان ابطال تشيخوف ( كانوا يموتون ), بينما ابطال موباسان ( كانوا يبقون على قيد الحياة) . يكتب شيستوف في الجزء الثاني من مقالته تلك عن انتقال تشيخوف من مرحلته المبكرة الساخرة , عندما ( كان يكتب مثل الطير ) الى قصته ( تاريخ ممل ) ومسرحيته ( ايفانوف ) , والتي كتبهما عندما كان عمره يتراوح بين 27 – 28 سنة ليس الا , ويتوقف الفيلسوف تفصيلا عندهما , مشيرا الى انه يرى , ان ( تشيخوف كان يبكي في كل سطر من سطورهما ), ويستنتج شيستوف , ان بكاء تشيخوف لا يمكن ان يكون منطلقا فقط من رؤيته لمعاناة الآخرين وحسب , وانما من معاناته الشخصية في اعماق روحه , والتي لم يتمكن النقد الادبي االروسي من ملاحظتها . يختتم شيستوف هذا الجزء بالحديث عن تأثير تولستوي على ابداع تشيخوف في تلك المرحلة . في الجزء الثالث يستمر الحديث عن ( تاريخ ممل ) بشكل معمق , حيث يؤكد الفيلسوف شيستوف على فكرته الاساسية وهي ان تشيخوف يجسّد اليأس في روحيته الجديدة , ويشير في الجزء الرابع ايضا الى نفس الفكرة ويقول ان ( ابطال تشيخوف وحيدون ) في عالمهم الشخصي والروحي . في الجزء الخامس يحاول شيستوف ان يصل الى الاستنتاج نفسه ويشير الى ان الانسان عند تشيخوف ( بلا أمل ) . في الاجزاء المتبقية , وهي – الجزء السادس والسابع والثامن يتوقف شيستوف طويلا عند الحوار المشهور بين كاتيا والبروفيسور في ( تاريخ ممل), والتي يصف فيه تشيخوف كيف تتعذب كاتيا وهي تلح باكية بالسؤال وكيف يجيب البروفيسور بانه لا يعرف الاجابة وهو يكرر جملة – ( لا اعرف ) , ويختتم شيستوف مقالته تلك بالاشارة الى ان تشيخوف ايضا قال للقارئ نفس الجملة – ( لا اعرف ).
لا يمكن لهذا العرض السريع لمقالة شيستوف ان يرسم صورة متكاملة لكل الجوانب العميقة لها , وان الاستيعاب الحقيقي لافكارها يقتضي ( للقارئ العربي ) قراءة الترجمة الكاملة لهذه الدراسة الى العربية بلا شك . لقد أثارت هذه المقالة في حينها ضجة كبيرة في اوساط النقد الادبي الروسي , اذ أشار البعض الى انها ( كلمة جديدة تمجّد تشيخوف وابداعه) , بينما قال البعض الآخر انها أساءت الى تشيخوف معتبرة اياه ( كاتب اليأس والموت ) , واعتبر النقد الادبي السوفيتي اسم شيستوف رمزا لعدم استيعاب الباحثين في مرحلة ما قبل ثورة اكتوبر 1917 لابداع تشيخوف وانسانيته , بل واعتبروا عنوان الدراسة هذه نفسها , اي ( ابداع من لاشئ), اساءة لتشيخوف وابداعه , بينما أكّد الاخرون , ان شيستوف اراد ان يقول في صياغته للعنوان , ان عبقرية تشيخوف استطاعت ان تعطينا ابداعا من لاشئ , وان هذا الابداع قد جعله في مصاف الادباء الكبار في روسيا وفي خارجها ايضا , وانه يمتلك خصائصه الفنية والابداعية.
ان هدف مقالتنا هو الاشارة – قبل كل شئ – الى دراسة شيستوف واهميتها في تاريخ النقد الادبي الروسي ( والتي تكاد ان تكون مجهولة للقارئ العربي ) , والتأكيد – مرة اخرى – على مكانة تشيخوف في مسيرة الادب الروسي خصوصا والادب العالمي بشكل عام .
اتمنى ان ( يتطوع !) مترجم عراقي او عربي بترجمة هذه الدراسة العميقة للفيلسوف الروسي شيستوف عن تشيخوف , وذلك لاغناء مكتبتنا العربية , اذ لا مجال لي شخصيا القيام بذلك مع الاسف . هل من مجيب؟