18 ديسمبر، 2024 10:00 م

تشيخوف بين الطب والادب

تشيخوف بين الطب والادب

كيف اختار تشيخوف ( 1860 – 1904 ) الدراسة في كلية الطب بعد انهاء المدرسة ؟ وهل خطط في شبابه كي يصبح طبيبا ؟ ولماذا لم يمارس هذه المهنة الانسانية لاحقا بعد ان تخرّج واصبح طبيبا ؟ وهل انعكست مهنته هذه على مسيرة نشاطه الابداعي في مجال الادب ؟ هذه الاسئلة كانت ولا زالت تدور في الاوساط الادبية الروسية والعالمية حول تشيخوف , الذي يعد الان واحدا من الادباء الروس الكبار , و من ادباء العالم البارزين ايضا .
كتب تشيخوف سيرة حياته بشكل وجيز , وأشار هناك , الى انه ( لا يتذكر!) لماذا اختار دراسة الطب عندما أنهى المدرسة, ولكنه أضاف – ( انه لم يندم على ذلك ) . وقد تناول الباحثون في ادب تشيخوف
هذه الاشارات الوجيزة بالدراسة و التحليل , وتحدثوا عن اسباب اختياره لمهنة الطب , وربطوها بوضعه الصعب في مدينة تاغنروغ , اذ بقي فيها تشيخوف وحيدا كي ينهي المدرسة , بعد ان سافرت العائلة الى موسكو بسبب افلاس والده , وقد عانى تشيخوف كثيرا في تلك الفترة طبعا من جراء ذلك , وربما كان هذا الوضع هو الذي دفعه الى اختيار مهنة الطب والالتحاق في كلية الطب بمرحلة الصبا تلك , اذ ان مهنة الطبيب تضمن العيش الكريم اقتصاديا , اضافة الى احترام الآخرين لهذه المهنة المهمة والضرورية لحياة الناس, ولكن تشيخوف – على ما يبدو – لم يرغب بكتابة هذه التفاصيل الصغيرة والشخصية جدا في سيرة حياته الوجيزة تلك , ولهذا اختصر كل ذلك بجملة ( لا يتذكر) , اذ كيف يمكن للانسان ان ( لا يتذكر ) تلك الفترة التي يقرر فيها اختيار مهنة المستقبل ؟ , ولكن الجملة الثانية هي المهمة والحاسمة في هذه السيرة الذاتية الوجيزة , اي – ( انه لم يندم على ذلك ) . لقد كان تشيخوف يفخر بمهنته تلك , وكتب بعد تخرجه لوحة علّقها على باب سكنه , وهي – الدكتور أ.ب. تشيخوف , وبدأ يمارس مهنته طبيبا , وأجاب على رسالة سوفورين , الذي نصحه ان يترك مهنة الطب ويتفرغ للادب قائلا – ( انت تنصحني الا اركض وراء ارنبين , والا افكر باشتغالي في الطب , ولا أعرف لماذا يجب عليّ الا اركض وراء ارنبين بالمعنى الحرفي للكلمة , اذا كان الركض ممكنا ….؟ فانا راض عن نفسي عندما اعي , باني امتلك عملين وليس عملا واحدا. مهنة الطب زوجتي .., اما الادآب فعشيقتي , وعندما تضجر من واحدة , تذهب للمبيت عند الاخرى …..) , وعلى الرغم من ان رسالة تشيخوف ذات طابع مرح وساخر جدا وتحمل روح الشباب , الا انها من جانب آخر تعبّر فعلا عن موقفه آنذاك . لقد بدأ تشيخوف بنشر قصصه القصيرة عندما كان طالبا في الكلية الطبية , ونجح فعلا – و بشكل باهر – في المجالين الطبي والادبي معا, ولم يفكر بالتفرغ في مجال واحد , اذ كان في قمة شبابه آنذاك , وكان على قناعة تامة انه يستطيع ان يؤدي في آن واحد ( عملين وليس عملا واحدا ) كما كتب في رسالته تلك , ولكن استمرار النجاحات الكبيرة في المجال الادبي أخذ يطغي على عمله في الطب تدريجيا , وقد حاول توحيد المهنتين , عندما قرر السفر الى جزيرة سخالين والتعرف على الحالة الصحية والاجتماعية للسجناء وسكان تلك الجزيرة النائية , وأصدر بعد السفرة كتابه الشهير بعنوان – ( جزيرة سخالين ) , والذي تميّز عن كل كتبه السابقة واللاحقة –, والذي تضّمن احصائيات علمية فريدة مستندة على الاف الاستمارات عن الوضع الصحي والاجتماعي للسكان هناك وضعها تشيخوف نفسه , وكتب عن هذه السفرة يقول – ( ان العلوم الطبية لا يمكن ان تؤنبني باني خنتها ) , واعتبر تشيخوف كتابه هذا بمثابة اطروحة دكتوراه في الطب , وان هذه الاطروحة تؤهله حتى للعمل تدريسيا في الكلية الطبية , الا ان المجلس العلمي للكلية رفض طلبه هذا , ويقول أحد الباحثين الروس , ان رفض المجلس العلمي لكلية الطب قد خدم الادب الروسي خدمة عظيمة , لانها أجبرت تشيخوف على تكريس كل جهده للعمل الابداعي والى الابد , وهوعلى حق فعلا . لقد ابتدأ تشيخوف في بداية تسعينات القرن التاسع عشر الاقتراب من فكرة التفرغ للعمل الادبي وترك مهنة الطب , لانه اصبح في عداد الادباء الروس الكبار , وابتدأت نتاجاته توفر له ضرورات الحياة الطبيعية , ونجد في احدى رسائله عام 1892 الجملة الاتية – ( …ان مهنة الطب تعرقل مهنة الكتابة ..) , وقد كتب تشيخوف هذه الجملة عندما انتشرت الكوليرا في روسيا , وكان مضطرا ان يعمل ويسافر الى مناطق مختلفة , وترك تشيخوف اخيرا مهنة الطب عندما سافر للعيش في يالطا بسبب مرضه , ولكنه استمر بمتابعة كل ما هو جديد فيها.
كتب تشيخوف مرّة يقول – (.. ان العلوم الطبية كانت تمتلك تاثيرا جديا على نشاطي الادبي , انها وسّعت مجال ملاحظاتي ..ومنحتني القيمة الحقيقية التي يمكن ان يفهمها الطبيب فقط , وبفضل ذلك نجحت في عدم الوقوع بالاخطاء.. ). وقال احد الاكاديميين مؤكدا ما ذكره تشيخوف في جملته تلك – (تشيخوف يصوّر مرض وموت ابطاله بدقة علمية ) .
الطبيب تشيخوف فقط كان يمكن ان يكتب قصصا دقيقة ورائعة مثل – (ردهة رقم 6) و (رجل في علبة) و (الراهب الاسود) وغيرها من النتاجات الابداعية التي لا زالت حيوية لحد الان.