8 أبريل، 2024 5:12 م
Search
Close this search box.

تشكّل مفهومالحداثة : السيرورة و الصيرورة

Facebook
Twitter
LinkedIn

»الحداثة هي اللحظة ذاتها، إنّها ذلك الطائر الموجود في كل مكان ولا مكان، وعندما نريد ان نقبض عليه حيّا فانه يفتح جناحيه ويطير متحوّلا الى قبضة من المقاطع والحروف«
(أوكتافيوباز، الحائز على جائزة نوبل 1990)

يناقش المجتمع الغربي منذ نهايات القرن التاسع عشر مسالة ما بعد الحداثة في إطار إعادة تقييمٍ شاملةٍ للمفاهيم الحديثة في الثقافة و الهويّة والتاريخ والأدب والفن.لأنّه مرّ بعد، من مرحلةعصر التحديث إلى عصر الحداثة، ثم ّإلى ما بعد الحداثة. فيما  لا يزال المجتمع العربي الإسلامي يراوح مكانه في مناقشة مسألة علاقة التنافر التي تجمع بين المسلم والحداثة.
ولا يجادل أحد، مهما كان انتماؤه الفكري، في أنّ  للسلفيّة الموغلة في الماضي، رؤيتها الماضويّة التي ليس لها حضور فاعل في الراهن المعاش. لأنّها بالأساس ليست أكثر من، إعادة إنتاج  لهذا الماضي  بحذافيره،كما هو، بغثّه وسمينه، و دون زيادة أو نقصان. فهي بهذا المعنى، تتعارض في مفهومها مع الفكر التنويري الذي يسعى، دوما، لإنتاج الحاضر والمستقبل عبر التحوّلات الحداثيّة التي لا تتوقّف في سيرورتها عند صيرورة إلّا لتتابع مسارها بنسق سريع نحو غيرها حتّى عرّف أحد العلماء الغربيين الحداثة بأنّها »مقدرة الإنسان على تغيير قيمة بعد إشعار قصير«.وذلك من خلال إكتشافات واختراعات علميّة و إضافات معرفيّة، بل وإبداعات فكريّة وفنّيّة، هي لمسات الإنسان المعاصر وبصمته وإسهاماته،بل وحصّته أو منابهمن التاريخ.ومن هنا فإنّ إنتاجه الفكري و الحضاري بوجه عام يتّصف بالحديث ويتنزّل في سياق الحداثةفيما يتّصف هو بالحداثي.ولكن ما هو مفهوم الحداثةوما هو مسار تطوّرها عبر التاريخ؟.
 لقد بات اليوم من شبه المؤكّد أن الإرهاصات الأولى لملامح  الحداثة، تعود بالأساس إلى حركة الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر،التي تزعّمها مارتن لوتر والتي تمايزت بها أوروبا  المسيحيّة أنذاك عن العالم الإسلامي. وبرزت بشكل واضح في الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وهو الصراع الذي أخذ شكلا أدبيا في غضون القرن السابع عشر بينالشعراء والكتاب، الذين أذكر منهم على سبيل الذكر كل من، نيكولا بوالو،Nicolas Boileau وراسينRacineولا فونتينLa Fontaine، ولا برويير La Bruyère وهم منأنصار القديم  أو بالأحرى من أنصار محاكاة الأدب الكلاسيكي الذي أعتبروه قمّة الإبداع، من جهة، وبينالأدباء والكتّاب المسرحيين من أمثال بيار كورناي,PièrreCorneilleوشارل برّوCharles Perrault  وفيليب كينوPhilippeQuinaulوبرنار دي فونتنالBernard de Fontenelle،  من أنصار الأدب الحديث الذين يرون ضرورة تجديد الأشكال الإبداعيّة ومواكبتها لقضايا العصر، من جهة ثانية. وقد خفت هذا الصراع  الأدبي الحادّ لبعض الوقت ليعود بقوّة منجديدفي غضون القرن الثامن عشر. وكانت  من أبرز تجلّياته، بعد انطلاق الخلاف ما بينماريفوMariveau،المتمسّك بتلابيب القديم،وديدرو Diderot صاحب الموسوعة الفرنسيّة، المنحاز إلى التيّار التجديدي الحداثي،تلكالخصومة الأدبيّة الشرسة و الشهيرة التي دارت بين فيلسوفي عصر التنوير في فرنسافرانسوا ماري أرويه المشهور باسم  فولتيرVoltaire وهو الأرستقراطي صاحب الطبع الشرس و الحظوة لدى السلطة،وجان جاك روسوJean-Jacques Rousseauذلك اليساري الفقير.وكانذلك من خلال دفقٍ من الرسائل المتبادلة والتي طفحت بالكره والحقد والاحتقارالذي ميّز العلاقة بين الرجلين.
وكان من نتائج هذا الحراك والخصومات أن أصبح مفهوم الحداثة متأثّرا  بتصورات ورؤى مفكري التنوير الذين هاموا بالديمقراطيّة والحريّة والعقلانيّة العلمانيّة والتقدّم المادّي حدّ العشق والتقديس.لذلك فهمت الحداثة على أنّها عصارة الافكار التي جاء بها مفكرو عصر الأنوار،الأنجليزوأهمّهم جون لوكJohn Locke، صاحب كتاب ”بحث في الحكومة المدنيّة” (Traité du gouvernement civil) والفرنسسين وأهمّهممونتسكيوMontesquieu صاحب كتاب ”عن روح القوانين”(De l’esprit des loi) الذي نادى بفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق الحريّة، و فولتير الذي نادى بنقل الحكم من الإقطاعية إلى البرجوازيّة، مع الحفاظ على الفوارق الاجتماعيّة، وجان جاك روسو الذي  وضع  نظريّة العقد الاجتماعي التي يتولّى الشعب بمقتضاها السلطة التشريعيّة وتتولّى الحكومة تنفيذ القوانين،على أن تكون رهن إشارة الشعب الذي له الحق في أن يسحب ثقته منها متى شاء ذلك. وغايةالغايات من  تلك القوانين إنّما هي تمتّع الجميع بالحريّة و المساواة بنفس القدر الممكن.
ثمّ  جاء، كل من شارل داروين(Charles Darwin)وكارل ماركس(Karl Marx)، وفردريك نيتشه(Friedrich Nietzsche)وسيغموند فرويد(Sigmund Freud)،فأعلنوا تمرّدهم على البنى التقليديّة للتصوّرات الدينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة التي وجدوا المجتمع الغربي عليها.فأصبحت الحداثة ضربا من القطع النهائي مع الماضي ومع التقليد، وخاصة مع التراث الديني .وفي هذا المعنى يقول أنطوني جيدنAnthonyGiddensأنّ الحداثة» تتمثّل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي والكنسي «. ويقولعالم الإجتماعالألماني ماكس فيبرMax Weber معرّفا الحداثة بكونها»فصم الإئتلاف والوحدة بين السماء والأرضممّا يجلي العالم عن وهمه ويلغيه من سحره«.من هذا المنطلق فإن الحداثة تغاير جذريّا وتتعارض حدّ التصادم مع المفاهيم التقليديّة، الدينيّة والثقافيّة والفنيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة المتّسمة بالجمود والتكلّس. حتّى قال أحدهم» كل مبدع حداثي، وكل مقلّد غير حداثي، حتّى وإن قّلّد الحداثة نفسها، لأنّ التقليد هو نقيض الحداثة «. والحداثة في نهاية التحليل تقوم على تبنّي العقل وتقديسه و استخدامالعلم والتكنولوجيا كآليات وحيدة للتعاطي مع الواقع، ونزع القداسة عن كل الظواهر لتحوّلها إلى مادة للاستعمال.بما يعني فصل السياسة عن الدينوفرض إرادة الفرد المطلقة  وتكريس وعيه بالحريّة . علاوة على ما يستتبع ذلك من إعلاء لمنزلة الإنسان ليصبح عند نيتشة، الإنسان الأعلى أو السبرمان ، في سياق فلسفة القوّة، سليلة الفلسفة الماكيفاليّة،التي نادت بضرورة اعتبار الدولة كقيمةأخلاقية مطلقة تتجاوز كل المطلقات دونها ،لتخلص بعد ذلك إلى المقولة الشهيرة» الغاية تبرّر الوسيلة«لضمان استمراريّة الدولة.وبديهي إن أخلاقيّات مكيافيليتتعارض مع الأخلاقيّات المسيحيّة التقليديّة، التي تدعو إلى التسامح والتواضع وهوما ينتج عنهإضطرابالدولة حسب زعم ماكيافيلي.ممّا يسوجب أخلاق تمجّد القوة والسلطة والاستقلال والطموح. لذلك، فهو يقول»قلّد الثعلب والأسد« و»لا تتوان عن ارتكاب الشرور«و»رهبة خير من محبّة« و»لا تكفّ عن التظاهر والكذب«،ونحوها من المقولات الموسومة ب”الواقعيّة” بالمعنى المادي للكلمة.هذه الواقعيّة التي تنحاز إلى ما هو ومن هو  قائم، ولا تنحاز بالمطلق لما هو ومن هو المفترض أن يكون في إطار مرجعيّة دينيّة.وهي إحدى تعبيرات فصل الدّين عن الدولة التي كان ماكيافيلي أوّل من نادى بها خلال القرن السادس عشر، ولم يسبقه في ذلك سوى الفيلسوف الفذّ إبنرشد.ولعلّ هذا الطرح يتّفق تماما مع فكر توماس هوبزThomas Hobbes الفيلسوف العلماني الإنجليزيالذي يرى أنّ منظومة القيم “عديمة الجدوى”وأنّ»المجتمع هو ساحة قتال الجميع ضد الجميع«.ويرى أن »الدافع وراء سلوكنا ليس محبّة رفاقنا بقدر ما هو حبّ لأنفسنا، فكل امرئ يحاول أن يزيد ثروته أو سلطته أو نفوذه إلى الحد الأقصى. والقيم والأخلاق والأخلاقيات ليس لها معنى إلا في إطار إشباع هذه الرغبات«.من هنا نفهم الجفاء والعلاقة التصادميّة، العدائيّة، بين الحداثيين من جميع المشارب اليساريّة واللائكية،من جهة، والإسلاميين وخاصة منهم السلفيين، من جهة ثانية.ومن هنا نفهم كذلك، لماذا يختصر بعضهم مفهوم  الحداثة في أنّها لا تتعدّى»حريّة الإنسان في إشباع رغبات نصفه الأسفل دون قيود اخلاقيّة«. وهذا الطرح التبسّيطيوالتسطيحي المقصود، يتعسّف على الحداثة، ولا يمكن أنياتيه إلّا من يهرف بما لا يعرف.  وفي ذلك تحقير للحداثة وتقزيم لها عن جهل،بآعتبارهاترجمانا لنسق معرفي وصناعي منظّم و منهج فكري ونمط حياة وممارسة إجتماعيّة وثقافيّة متكاملة من مقوّماتها الأساسيّة العقلانيّة والتجديد والإبداع بنسق سريع، هو نسق الحياة العصريّة أو الحداثيّة وفق تعريف اوكتافيوباز المشار إليه مطلع المقال.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب