23 ديسمبر، 2024 12:52 م

تشظي السرد وتعدد الاصوات في رواية . . أبن طرّاق

تشظي السرد وتعدد الاصوات في رواية . . أبن طرّاق

الادب الروائي لايشكل حضورا ً ملفتا في المشهد الابداعي  السعودي خاصة والعربي عامة، أولا ً لندرة الكتابات الروائية ،وثانيا ً عدم أهمية مايطرح من نصوص روائية بالمقارنة مع ماينتج من سرد روائي متقدم في عدد من البلدان العربية (مصر، المغرب العربي ،العراق،  بلاد الشام ) ، في مقابل هذا حاولت عدد من دور النشر أن تضفي  هالة من الاهمية المبالغ في تقديرها في اكثر الاحوال لبعض من الكتابات الروائية النسوية تحديدا ً،ويقف وراء ذلك غايات تجارية رغم الملاحظات الفنية المسجلة ضد تلك الكتابات ، مع اننا لاننفي توفرها على عدد من العناصر التي تمنحها اهمية خاصة ،وذلك يعود الى جرأتها وهي  تتناول موضوعات تتسم بحساسية بالغة في المجتمع السعودي عبراستثمار الفن الروائي ، كالجنس والعلاقات العاطفية الى غيرها من التابوهات الاجتماعية التي تشكل ستاراً ثقيلا يكبح جماح الشخصية السعودية التي تعيش وضعا مأزوما ً يزدادا إحتقانا ً يوما بعد آخر .
 ويشكل هذا المجتمع في بنيته صورة لما أطلق عليه نقديا مجتمعات مابعد الحداثة، وهي مجتمعات تبدو  مُتارجحة مابين تطلعاتها الذاتية نحو الحرية في التفكير واختيارات العيش وبين الخضوع تحت  هيمنة سلطات متعددة تتقاسمها تقاليد بدوية وقبلية ضمن منظومة متشددة من الافكار والمعتقدات المستمدة والمستنتجة من نصوص دينية مقدسة.
في ظل هذه الصورة البالغة الحساسية والتعقيد التي يعيشها المثقف والمبدع السعودي والتي يجد نفسه فيها مضطرا ً لأن يتعامل معها ويجاريها رغم نبرة الرفض والاحتجاج التي تتفجر بشكل خفي ومخبوء في ذاته ضدها لابد لنا ان نحتفي بأي عمل أدبي قادم من السعودية يسعى كاتبه الى كسر حاجز الخوف داخل نفسه أولا في محاولة منه لأن يمدَّ بصره خارج الحواجز والاسوار العالية التي يقبع مرهونا خلفها ، في سعي منه  لينفذ في أعماق مجتمعه المُتلفِع بالغموض الشديد والحجب الثقيلة ، سعيا ً منه لكشف الصراعات التي تخوضها الذات الانسانية في مجتمع محافظ ومتزمّت لايسمح مطلقا ً بالخروج عن الثوابت التي تعوّدت القوى المجتمعية على تقديسها والانحناء لها رغم عزلتها عن المتغيرات العميقة والواسعة التي شهدتها البشرية في إطاراحترام الحرية الفردية . وإذا ما توفر في أي نص روائي سعودي  جملة من العناصر الفنية المنجذبة نحو التجديد والخروج عن الاطر التقليدية في السرد والمعالجة عندها يكون أحتفاءنا منطلقه الاساس ، فني بحت،وليس إطراءً مبعثه التشجيع فقط .
رواية (أبن طرّاق )التي تقاسم فصول كتابتها محمد السماري وبدر السماري والتي تقع في 430 صفحة والتي صدرت طبعتها الاولى عام 2011 عن دار آثر للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية / الدمام ، والدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت . تمثل نموذجا لعمل روائي أمتلك خصوصية العناصر الفنية التي توفرت عليها اساليب مابعد الحداثة ، هنا نجد في هذا العمل أن المسار الفني قد إكتمل بنائه في فصول سبعة حملت عناوينها الفرعية أسماء جميع الشخصيات التي أحتشد النص بها ، فكانت عناوين الفصول عتبات أشارية اكتسبت خصوصيتها المتنوعة من تركيبة الشخصيات مثل ( ابن طرّاق ، أبن مسمار ، الطارق ..الخ ) وفصول اخرى استمدت عناوينها من الاحداث ( محكمة 1 ، محكمة 2 ، فياجرا ، الطريق الى ماوراء الشمس ) .
 جرأة هذا النص الروائي وماأشتمل عليه من خصوصية فنية تبدو من الصفحة الاولى عندما يطالعك الاهداء بهذه الجملة :”إلى الذين ماا نفكوا ينصبون الحواجز،نشكركم كثيرا،إذ منحتمونا عزم عداء أولمبي ” .
هذا المفتتح  يمْسِكَنا نحن القُرَّاء ليقودنا الى عالم ابن طرّاق كي نشهد معه الدقائق الاخيرة من حياته قبل ان يلفظ انفاسه وحيدا على سرير بارد في مستوصف القرية والخالي من المراجعين والاطباء بعد نهاية الدوام الرسمي ولايقف الى جانبه سوى صبحي المصري سائقه وكاتم اسراره الشخصي ولاأحد من نسائه الاربعة ولاأولاده ومحضياته اللواتي كان يغدق عليهن الكثيرمن العطف والمحبة والرأفة، اضافة الى ما كان يمنحهن من مالٍ بسخاء ٍواضح ٍ إفتقدنَه ُ فيما بعد في شخصية ابنه الاكبر جبل الذي تولى ادارة شؤون العائلة حسب ماتقتضي الاعراف بعد وفاة والده بأعتباره الاكبر من بين جميع الاولاد الذين تركهم ابن طراق من نسائه الاربعة ، ليجد نفسه فجأة مسؤولا عن الارث الكبير  الذي تركه والده  من الاموال والاملاك ،والذي لايعلم عنه الاّ القليل ،كما يجد نفسه منساقا الى الاستمرار في احياء الحياة السرّية لوالده  في مزرعة تقع خارج مدينة الرياض كانت تشهد سهرات اسبوعية تتكفل بتنظيمها ( لوزية ) التي كانت قد استجابت لكل طلبات أبن طرّاق ووفرة له كل مايشتهي من أصناف النساء، وفيما بعد سنكتشف أن لوزية  تعمل في النهار موظفة في سلك التعليم بدرجة نائبة مديرة مدرسة ثانوية وفي الليل تعمل ( قوّادة ) تتولى ادارة شؤون العديد من الفتيات والنساء العاهرات،بعضهن ينتمين الى اصول قبلية عريقة في المجتمع،وهذه السهرات الاسبوعية كان ابن طراق حريصا على إقامتها فكانت تحفل بالنساء الباحثات عن الحب والحرية والعطف قبل المتعة والمال وهذا هو ماوجدنَه في سهرات ابن طرّاق الذي كان يتسع قلبه لهُنَّ قبل أي شيء آخر .
مالذي يمكن أن يستدعي في الذاكرة عندما يواجه قارىء هذه الرواية في وسط أعلى الصفحة الاولى عنوانا ً يقول  : ” مثل كلب ”  .  فتكون هذه العبارة مفتتحا ً للدخول الى الفصل الاول منها . تلك كانت دهشة اولى يستيقظ فيها الوعي المعبأ بالمفاهيم والمقولات الجاهزة عن بيئة المجتمع السعودي، ثم يأتي بعدها حوار آخر  يتألف من جملتين:
“- أسرع ياقواد
– حاضر ياعم
 ليكشف فيهما الكاتبان عن مسارغير متوقع  يبعد تماما عن سطحية الصورة المترسِّبة في ذاكرة القارىء حول طبيعة مايمكن أن يكون عليه الادب السعودي من محافظة وتقليدية .
فيما يتعلق بحبكة الرواية وبنيتها الفنية التي خرجت تماما عن المنظومة التقليدية في سرد الاحداث وبناء الحكاية،  لتتشظى الى حكايات يتعاقب على سردها ضمائر مختلفة تمثل اصوات الشخصيات التي تتحرك في نسيج التفاصيل المتداخلة مع بعضها والتي تتمركز جميعها عند شخصية( أبن طرّاق ) المحورية . وهذه من الخاصايات التي أفرزتها مرحلة مابعد الحداثة حتى أن العديد من الشخصيات الروائية الهامشية تتقاطع في رؤيتها للاحداث ليجد قارىء العمل أن كاتبي الرواية هما الاخران يتحولان في لحظة ما من زمن بناء حبكة الرواية الى شخصيتين روائيتين تتقاطع رؤيتاهما مع كاتبي الرواية ايضا ً اثناء سردهما للاحداث ويترك المؤلفان محمد السماري وبدر السماري لشخصيتي المؤلِفين المُفتَرضَين للنص الروائي داخل النص الروائي نفسه حرية البناء السردي والتفكير بعيدا عما يخطط الكاتبان الاصليان محمد وبدر السماري في تأثيث معمارية البناء السردي، وهنا تكمن الخاصية الفنية للرواية والمتجسدة في تعدد الاصوات التي تنسج حبكتها وتروي الاحداث وفقا لمنطقها ووجهة نظرها ، وهذا  يتوافق مع ما أشار اليه محمد برادة في المقدمة التي كان قد كتبها عندما ترجم كتاب(الخطاب الروائي) لباختين ،إذ يقول :”خطاب الرواية خطاباً خليطاً متصلاً بسيرورات تعدد اللغات والاصوات وتفاعل الكلام والخطابات والنصوص ضمن سياق المجتمعات الحديثة القائمة على انقاض قطائع اجتماعية وابستمولوجية مع مجتمعات القرون الوسطى ”
بلاشك ان هذا العمل الروائي فيه الكثير من الاشتباك الفني مع ماجاء من طروحات فنية انتجها الفن الروائي لما بعد الحداثة ، وقد اتسم في عموم بنيته الفنية بالتشظي والانشطار : “النقيض يجاور نقيضه في اتصال غير منقطع ” كما يقول عبد الله الغذامي في كتابه (هويات مابعد الحداثة) ولان المجتمع السعودي هو الاخر يعيش حالة من التحولات التي تتعمق فيها الصراعات  القائمة بين تراكيب وهويات متناقضة خلال العقود الاخيرة لذا أجد هنا الكثير مما تنطبق عليه تلك المقولات التي كان قد توصل اليها هيغل عندما ربط بين شكل الرواية ومضمون التحولات البنيوية التي كان قد شهدها المجتمع الاوربي خلال صعود البرجوازية وقيام الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر .
 ونتيجة لمايحدث في المجتمع السعودي من ارهاصات كان لابد ان ينعكس ذلك على الفن الروائي وليتحول هو الاخر مستجيبا لهذه المتغيرات ، وهذا مايبدو واضحا في تركيبة  الشخصيات التي بتنا نواجهها وهي تخوض أختياراتها وانحرافاتها بعيدة عن النمط التقليدي الذي يهمين على سطح المجتمع مثل شخصية فردوس الزوجة الشابة لابن طراق التي  يأتي  ترتيبها الرابع بين زوجاته،  فالكاتبان قدّما هذه الشخصية لتعبر عن جيل جديد يحرص على أرتداء أحدث ماتطرحه دورالازياء من بناطيل الجينز الضيقة كما لاتتردد في أن تستعرض نفسها أمام أبن زوجها (جبل)  لكي تعرف رأيه فيما لوكان البنطلون الضيق لائقا ًعلى جسدها أم لا ، هذه الشخصية بهذا البناء المتمرد الذي جاءت عليه والتي لاتصغي حتى لوصايا ونصائح ابيها تجسد نموذجا صريحا ً للقوى الاجتماعية التي باتت تجابه مايفرض عليها من عقبات تهدف الى ارغامها على الخضوع لمواضعات العلائق الاجتماعية التي عرفها وكرسها المجتمع . 
عموما  رواية ابن طراق تشكل تحديا مهما ومثيرا في الكتابة الروائية المشتركة التي سبق أن تعاطى معها عدد من الروائيين العرب،على سبيل المثال تجربة جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف في رواية عالم بلا خرائط . 
إضافة الى كونها عمل روائي جريء وغير تقليدي في بنيته الفنية ويعكس صورة مشرقة لطبيعة النتاج الفني الذي بات يفرض وجوده في خارطة مايطرح من أعمال روائية في المشهد الابداعي السعودي .