” الإيمان هو التفكير في جزئيات الشأن البشري من وجهة نظر كليات المطلق الإلهي”
إذا كان الفكر في حضارة إقرأ لا يزال أصوليا منغمسا في العديد من الأحكام القطعية والأسس الصلبة وإذا كان مُرَادُ العقلنة والتمدين والعلمنة هو تشريح هذه الأصولية فإنه من الأوكد التوجه رأسا نحو هذه الأصول التي تفرع عنها من أجل تحديدها وتحليلها وتفكيكها عن بعضها البعض وبناء فكر غير أصولي.
لقد تشكلت هذه الأصول من الأساطير الشرقية والتقاليد التراثية الوافدة والأديان التوحيدية والمعتقدات والشيم العربية والشعر “الجاهلي” و بصورة لافتة الوحي القرآني والحديث النبوي والفلسفة الإغريقية.
لقد شَخَّصَ العديد من المشتغلين بالفكر تأخر العالم الإسلامي وانغلاق الدائرة العربية بالوقوع في آفة التبعية والاغتراب والانقسام والتقليد والماضوية واللاّتسامح ولذلك تم اقتراح الحلول التي تشمل التجديد المتأني والاستقلالية الذاتية والوعي التاريخي والتوحيد بين مختلف العناصر التكوينية للأمة والانصهار بين المكونات المتعددة والاهتمام بالمستقبل من خلال التخطيط الاستراتيجي واستئناف باب الاجتهاد والانفتاح على الأمم المتطورة والنهل من القيم الحضارية الراهنة وإرادة التعايش مع الشعوب المغايرة.
غير أن العقل الفلسفي من جهة اشتغاله على المفاهيم المستقرة وبحثه الدؤوب عن العلل الأولى وتمييزه بين الوظيفي والماهوي وبين المعرفي والإيديولوجي يعتبر العامل الديني المشكل الأكبر في فساد الأحوال ويُحمِّل علماء الدين والسياسة مسؤولية الكارثة التي حلت بالأمة لما بدا عليهم من تقصير وغفلة وتملق.
لقد ظهرت عدة قضايا خلافية تخص الحياة اليومية للإنسان وتتطلب حسم الخلاف وإصدار الحكم الفقهي ووجد الفكر الديني نفسه في مأزق وعطالة ووقع في عدة أخطاء وتناقضات في التعامل مع المستجدات.
لقد ارتبطت الممارسات الدينية بصورة فردية ومن خلال طقوس وشعائر جماعية بالعديد من الشوائب والآفات مثل الغلو الذي أنتج التشدد والعنف الذي بلغ حد الإرهاب والوثوقية التي أفضت إلى التعصب وتزايدت مسالك التدين الافتراضي من خلال الوسائط الحديثة وجنحت بعض الجماعات إلى التمذهب.
من جهة ثانية تعاني المؤسسة الدينية من أزمة هيكيلية وذلك بسبب تصادمها مع عالم الحياة وعجزها عن مواكبة الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي وفشلها في شرعنة الوجود الاجتماعي الذي خضع للرقمنة في الزمن مابعد الصناعي وأضاعت البوصلة في خصوص المواءمة بين قدسية النص ودنيوية التشريع.
لقد أراد النظام الثقافي الرسمي أن تكون الحداثة الدينية في الحالة العربية على المنوال الغربي نازلة من هرم الدولة إلى قاع المجتمع ومنطلقة من المؤسسات مستهدفة الشوارع والساحات والجهات والأعماق.
لقد تم تخيّل التحديث على أنه يكون أنجع وأكثر استقرار بقوة السلطة وبجور القانون فوجه سهامه الهدامة نحو المقدس وسدد ضربات مطرقته بغية الحفر في أعماق الذاكرة الجمعية والتنقيب في اللاّوعي الديني.
لقد وقع التخلي عن الإسلام التأسيسي تجنبا للشبهة الأصولية وتم استبداله بالإسلام التاريخي تفعيلا للتطور وبدل تحويل الإسلام إلى دين مدني يفيض بالمعاني ويمثل رحمة للعالمين حدثت حيلة في رهنه في محبس الدين الوضعي كتبت نصوصه العقدية كائنات بشرية عَمَت عيونها عن نور الدين الطبيعي وصُمَّت أذهانها عن صوت الوجود الأصيل الذي يرتفع في الكون منتظرا قدوم الإلهي بعد أفول الآلهة جراء عبادة التقبيل.
لقد سهى الملأ الأعلى عن وقائع عديدة وملابسات كثيرة حدثت للمنابت الدينية عند ولادة الحداثة الغربية وتغافل المشرع عن تغافل العقلانية الفلسفية في لحظتها التأسيسية عن حضور البعد الغيبي في رحمها طلبا للضمان الإلهي في ظل شرود الكوجيتو وتقطع أوصاله بين التفكير والوجود في آناته الزمنية المنفصلة.
لقد جهل العارفون بعلوم الدنيا بعض من حقائق الاسكاتولوجيا وارتكبوا حماقة سوء معاملة التحديث للتقليد وتركوا حركة التطوير تهدم المعمار الذي بني عليه الميراث القديم وتنهي المعركة مع الماضي فن السرد وأوقعوا الحشود في الاغتراب الديني وأفرغوا النخبة المثقفة من وعيها نخبوي وأفقدوها النضج الوجودي.
من البديهي إذن أن يكون مشكل التقدم في الإسلام وما يقتضيه من تطهير للأعراق من أشكال التمركز ومن تهذيب للأخلاق من كل القيم المعولمة ومن صنمية المبادئ الاستهلاكية هو من صلب اهتمام الفلاسفة والمفكرين وشغلهم النظري والتزامهم العملي وليس فقط من اختصاص رجال الدين من الفقهاء والدعاة.
حري بالمجتهد في فضاء الناطقين بلغة الضاد أن يولي وجهه شطر البيت المعمور قصد التزود بالحكمة النورانية والاستنارة بالسراج القرآني الوهاج بغية استئناف النظر التشريعي وذلك بالاعتبار من الأحداث والمتغيرات مع أخذ الحيطة من الاحراجات العملية والتفاعل مع المعارضات الاجتماعية والنقد المعرفي.
إذا كانت رمزية اللغة الدينية تغلق الأبواب بشكل تام أمام قيام حركة تفسيرية وافية بمقصود النصوص فإن تحريك آلة التأويل يتطلب المراهنة على انطلاق حركة تأويلية جذرية داخل الفضاء الفلسفي الديني تقوم بالتمييز بين مستويين من التجربة الإيمانية هما علو المقصد المستهدف من الوعي وتجلي الأشكال التعبيرية من ناحية وتهتم بوصف هذه التعبيرات الدينية من جهة البنية والدلالة والماهية من ناحية ثانية .
لا تبحث هرمينوطيقا الإسلام عن جواب للمشكل الإلهي في المرجع التيولوجي مع حدة التناقض بين العدل مع الشر بل تبحث عن مسار للكائن يخلصه من الوجود التاريخي للشر في مستوى اللاهوت السياسي. كما أنها لا تحرص على اختبار شروط صلاحية الخطاب الديني فحسب بل تسعي إلى إزالة سوء الفهم وتنقية الالتباسات ونقاط الغموض في التجربة الدينية مركزة على تطهير اللغة المعبرة عن فرحة الإيمان. فكيف يفضي التشريح إلى استئصال الآفات من الجذور وتفكيك العقد الدفينة وتطهير المجتمع من الهزيمة؟