23 ديسمبر، 2024 5:56 م

تشرنيشيفسكي وروايته – ( ما العمل ؟)

تشرنيشيفسكي وروايته – ( ما العمل ؟)

نيقولاي غافريلوفيتش تشرنيشيفسكي (1828-1889 ) – مفكر روسي بارز و متعدد المواهب في مجالات ابداعية مختلفة , فهو فيلسوف كبير قبل كل شئ وروائي وقاص وناقد ادبي يمتلك مكانته المتميزة والمعروفة في هذا المجال وتدريسي لامع ومترجم وصحفي , اضافة الى انه اشتهر كمناضل كبير في تاريخ روسيا القيصرية , حيث قضى في سجونها ومعتقلاتها 20 سنة ونيف – بسبب افكاره ونشاطاته الثورية – منذ اعتقاله عام 1862 في بطرسبورغ وصدور الحكم عليه عام 1864 بالسجن لسنوات طويلة ثم اقامة دائمية في سيبيريا والى وفاته واقعيا , اذ اطلقوا سراحه عام 1883 ليس الا, ولم يسمحوا له بالرجوع الى مدينته الا قبيل وفاته عام 1889 . ولا يمكن لنا ان نتناول طبعا نشاطاته ونضاله وابداعاته الفكرية المتنوعة كافة في اطار مقالتنا هذه , والذي لم يحظ بالشهرة – مع الاسف – لدى القراء خارج روسيا بما فيهم طبعا القراء العرب , رغم اننا نريد – بدءا – ان نشيد بالباحث والمترجم السوري المعروف الاستاذ عدنان جاموس ( زميلي في جامعة موسكو في ستينيات القرن الماضي ) على التعريف الوجيز والعلمي والوافي و الدقيق بتشرنيشيفسكي في الموسوعة العربية الشهيرة , والتي صدرت في دمشق نهاية القرن العشرين , وكذلك نود ان نشيد بجهود المترجم السوري الكبير الاستاذ يوسف حلاق ( زميلي ايضا في جامعة موسكو في ستينيات القرن الماضي ) لأنه قدٌم للقارئ العربي ترجمة رائعة لاطروحة الماجستير التي ناقشها تشرنيشيفسكي بنجاح في جامعة موسكو عام 1855 , والتي كانت بعنوان – ( علاقات الفن الجمالية بالواقع ), وقامت وزارة الثقافة والارشاد القومي السورية في دمشق بنشرها عام 1983 , وبسبب كل هذه النقاط المشار اليها اعلاه , فاننا سنتحدث في مقالتنا هذه فقط عن رواية

تشرنيشيفسكي الموسومة – ( ما العمل ؟ ) والتي صدرت عام 1863 في احدى المجلات الادبية بروسيا.

رواية تشرنيشيفسكي ( ما العمل ؟ ) هذه لا تشغل مكانة متميزة وكبيرة بتاريخ الروايات الروسية في مسيرة الادب العالمي مثل روايات بوشكين و ليرمنتوف و غوغول وتورغينيف و دستويفسكي وتولستوي بالطبع , ولكنها – مع ذلك – تتميز بقيمتها السياسية والاجتماعية بشكل او بآخر في تاريخ الادب والفكر الروسي عموما , ونحاول في مقالتنا هذه القاء الضوء – قدر الممكن – على هذه الرواية غير المعروفة كما يجب – وغير المترجمة مع الاسف الى العربية حسب علمنا المتواضع – للقارئ العربي بما فيه الكفاية رغم اهميتها ومكانتها وقيمتها السياسية والفكرية تلك.

ابتدأ تشرنيشيفسكي بكتابة هذه الرواية عام 1862 عندما تم اعتقاله , وقد أنجزها – وهو في المعتقل – عام 1863 واستطاع ان يوصلها الى مجلة (سوفريمينك ) ( المعاصر ) على اساس انها عمل ادبي بحت , وقد سمحت الرقابة في المعتقل آنذاك لتشيرنيشيفسكي بكتابة الرواية , ثم باخراجها من المعتقل , لانها لم تجد في تلك الرواية افكارا ممنوعة او تتعارض مع السلطة القيصرية وتوجهاتها او تتناول دعاية لافكار هذا الشخص المعتقل عندهم لاسباب سياسية وايديولوجية محددة , وهذا ما تم فعلا , و نشرت مجلة ( سوفريمينك ) الروسية تلك الرواية كما ذكرنا اعلاه في اعدادها ( 3, 4 , 5 لعام 1863 ) ولكن سرعان ما شعرت الرقابة بالافكار الموجودة في طيٌات هذه الرواية وسطورها وما بين السطور , وسحبت هذه المجلة من التداول العلني وحتى اعلنت اقالة رئيس هيئة الرقابة , التي سمحت باخراج الرواية من المعتقل ونشرها , الا ان الامر اصبح خارج ارادتها , وانتشرت الرواية بين القراء الروس بشكل سرٌي وسريع , ثمٌ تم طبعها في كتاب مستقل خاص في جنيف من قبل اللاجئيين الروس هناك عام 1867 . ويتفاخر انصار روسيا القيصرية بهذا الحدث غير الاعتيادي , مؤكدين على التصرفات الموضوعية والحضارية و الجانب الانساني لذلك النظام ,

الذي سمح لمعتقل ان يكتب رواية في معتقله ويرسلها للنشر و ان تنشر فعلا في مجلة علنية تصدر في داخل الدولة الروسية , رغم كل الذي حدث بشأن مصيرها بعدئذ , ولكن المضادين لهؤلاء يقولون , انه لو كان النظام جيدا فعلا لما اعتقل الفلاسفة والمثقفين بسبب افكارهم ليس الا , وكل الامور وتفسيراتها نسبية طبعا , وفي كل الاحوال , فان هذه الحادثة متميزة فعلا في المسيرة الفكرية لروسيا في القرن التاسع عشر , واذكر ان احد الطلبة الاجانب من اوربا و الذي كان يدرس معنا آنذاك , قد أثار هذه النقطة في كلية الاداب بجامعة موسكو اثناء المحاضرة حول تشرنيشيفسكي , فحاول الاستاذ الروسي حينها التاكيد على ان الرقابة عندها كانت غير ذكية بتاتا ولم تستوعب مضمونها او تفهم الجوهر السياسي والاجتماعي للرواية , وان تشيرنيشيفسكي قد كتب روايته تلك بصيغة غير مباشرة واطار خاص للتعبير عن افكاره السياسية والاجتماعية واقعيا , وانه حاول ان يخدع الرقابة في كتابته , ولهذا سمحت له الرقابة بالكتابة وارسال الرواية الى المجلة المذكورة لنشرها , ولم يقتنع الطالب آنذاك بجواب الاستاذ , وأصٌر على ان ذلك دليل على حرية العمل و النشر في ذلك الزمان بغض النظر عن الموقف السياسي للكاتب تجاه ذلك النظام السياسي والاجتماعي السائد في ذلك الوقت وبغض النظر عن الشئ الذي حدث بعد ذلك للرواية وكاتبها , وتكرر هذا الموقف – بشكل او بآخر – بعد سنوات , في مناقشات جرت في أوساط اللاجئين الروس في باريس نهاية الستينات من القرن الماضي حول ذلك الموضوع بالذات , حيث كنت حاضرا , وأظن ان طبيعة المقالة هذه لا تسمح بالاستطراد اكثر, فلكل جهة طبعا وجهة نظرها وفلسفتها وتفسيراتها حول ذلك , و لكن الشئ الوحيد و الاكيد هنا – هو الوقائع طبعا , والتي أشرنا اليها أعلاه .

مضمون الرواية بشكل عام لا يبين خصائصها الفكرية بشكل مباشر وصريح , رغم ان تشيرنيشيفسكي اراد ان يجيب على رواية تورغينيف المعروفة – ( الاباء والبنون ) , التي صدرت قبيل روايته تلك في روسيا , وأثارت عاصفة من ردود الفعل تجاهها في اوساط المجتمع الروسي آنذاك

( انظر مقالتنا بعنوان – بازاروف بطل رواية تورغينيف الاباء والبنون ) , بل وحتى استخدم الكاتب في روايته هذه اسم كيرسانوف , الذي جاء في رواية تورغينيف المذكورة تلك , واراد تشيرنيشيفسكي ان يرسم صورة متكاملة للانسان الثوري الجديد في المجتمع الروسي , وافكاره وتصرفاته مع الاخرين , خصوصا بالنسبة لأحد ابطال هذه الرواية وهو رخميتوف وافكاره الاشتراكية الطوباوية ( الخيالية ) , وانطلاقا من ذلك طرح موضوعات واحداث غير واقعية ومحاطة ومغلفة بالاحلام ( التي تراها بطلة الرواية فيرا بافلوفنا في مناماتها ) وبالاحداث التي تكاد ان تكون شبه خيالية تقريبا (بطل الرواية دميتري لوباخوف الذي تظاهر بانه قد انتحر في روسيا كي يمنح الحرية لفيرا بافلوفنا – زوجته الشكلية امام المجتمع ولكنه في الواقع قد هاجر الى امريكا , وعودته من امريكا باسم مستعار باعتباره مندوبا لشركة انكليزية كي يشتري معملا من أحد الصناعيين الروس , ثم يتزوج ابنته , ثم يعيشون جميعا مع زوجته السابقة فيرا بافلوفنا وزوجها الثاني سوية في بيت واحد !! ) , وتدعو الرواية في نهاية المطاف الى علاقات اجتماعية جديدة كليا وغير اعتيادية تماما بين البشر, بل ويمكن القول – وحسب آراء بعض الباحثين – انها تتعارض حتى مع المسيرة الاعتيادية المتعارف عليها في العلاقات بين افراد المجتمع الانساني , رغم ان المنطلقات النظرية للكاتب كانت تستند الى رغبته الجامحة لخلق قاعدة جديدة وعميقة وايجابية لعلاقات اجتماعية جديدة كليا , تتميز جذريا عن تلك العلاقات السائدة في مجتمعه آنذاك .

ان احداث هذه الرواية الدراماتيكية و المتشابكة جدا قد تحولت – وليس ذلك عبثا او صدفة ابدا – الى مسلسلة تلفزيونية من ثلاث حلقات وتم عرضها في التلفزيون الروسي عام 1971 , وتحولت ايضا الى مسلسلة تلفزيونية ايطالية من خمس حلقات وتم عرضها في التلفزيون الايطالي عام 1979 , ومن الطريف ان نشير هنا الى ان هذه الرواية كانت من الكتب المفضلة للشاعر السوفيتي المشهور ماياكوفسكي , وقد ذكرت عشيقته ليلي بريك في مذكراتها ( والتي ذكرها الشاعر في وصيته قبل انتحاره واعتبرها

جزءا من عائلته ) , ان ماياكوفسكي كان يقرأ هذه الرواية دائما ويبحث في ثناياها عن اجابات لتساؤلاته في الحياة , وانها كانت آخر كتاب قرأه قبل انتحاره عام 1930 , أما لينين , فقد استخدم عنوان تلك الرواية لاحدى كتبه المهمة والمعروفة جدا – ( ما العمل ) , والتي نشرها في نهاية القرن التاسع عشر , وهي واحد ة من كتب لينين الرئيسية والاساسية في مسيرته الفكرية , والتي اراد فيها الدعوة لتشكيل حزب سياسي ثوري يقود الحركة السياسية الروسية.

والخلاصة , فان رواية تشرنيشيفسكي ( ما العمل؟ ) تعد وثيقة مهمة من وثائق الادب والفكر الروسي في القرن التاسع عشر , وتستحق الدراسة والتحليل العميق والترجمة الى لغتنا العربية بلا أدنى شك .