23 ديسمبر، 2024 5:47 ص

شهي فعلا تسواهن وتسواهم ايضاً …..!؟ ، لكن الزمن بالمرصاد لمن يرفد الخير زهواً ويرفس الشر حقداً وجفاءً ، ويتحرك غصن شجرتي ، في حديقتي الصغيرة ، فهو اعتاد أن يتحرش بي كثيراً ، كلما وقفت تحته ، يداعب أذني ، فأنا دائم الوقوف والنظر بخضرة الطبيعة ، عاشقاً  لكل شيء أخضر ، كأن تلك الامتار التي بعدد الاصابع هي جنتي في الارض ، ابتسمت لتلك المداعبة ، هو أحد أحفادي ، الذي  كان  يمسك أذني دوماً ، ويتسنّم ظهري المنهد ، وأنا أتحمّل ذلك بشوق وفرح ،  وأتذك  قول جدي الذي كنت افعل معه نفس الفعل :  ( أعز الولد ، ولد الولد ) ، وتهت في ربوع الله والخلق ، ثم  عدت أستمتع بحديث أخي السيد ناصر اليعقوبي وهو يروي لي قصة تلك المراة العظيمة التي ألهمتني عظمة الله في خلقة الأحياء من بشر وشجر وحجر ، أثّث لنا الدنيا بأطيب الأشياء على أحسن  ما يكون ، وأطلقنا فيها  لنعمل ، وأول فعل استهللنا به حياتنا تلك ، هوعصيانه ، فنحن البشر أقرب مخلوقات الله الأخرى للشيطان ، إننا نلتقي معه بعصيان الله ، فهو عصى الله بعدم السجود لآدم ونحن عصينا الله  بأفعالنا المشينة التي تغضبه…..
  إمرأة بسيطة ، من الأهوار ، لا تقرأ ولا تكتب ، لا تعرف قواعد الحضارة ، والرقي المزيف كما نعرف نحن ، لا تحسن البهرجة والتشدق في الكلام ، حصتها من الحياة أن تجيد المثل العليا  بحرفنة وتمكّن  ، فهي تحسن الحرية وتمارسها بعناية وأناقة ، وكأن الحرية ثوب جميل تلبسه لتتباهى به بين النساء ، هي تعرف حقوق الله كاملة وحقوق الوطن والناس ، فهي لا تحسن الكتابة بالحروف بل تحسن النقش بالخلق والمثل العليا في قلوب وعقول من يعرفها ، امراة بطول شبعاد وبقامة عشتار ، عيناها تبرقان كعيني سميراميس ، يعزف منجلها في أبدان القصب والبردي ، كعزف قيثار شبعاد ، آيات الوقار هالة لا تفارق جسدها الملوف بعباءة الليل ، فتبدو كقطعة من ليل دامس ، يشع وجهها قمراً في سمائه الصافية المرصعة بالنجوم ، ترتدي صهوتها ، زورقاً صغيراً كفارس من فرسان سومر، وهي تمسك( المردي) سيفاً قاطعاً يقصم ظهر الماء ، من سيوف الشيباني ، ينساب زورقها بخفة ووقار فهو محترم بين البردي والقصب ، الكل يحترمه وينفرج مبتعداً عنه ليفتح له الطريق باحترام وهيبة، وكأنها ملكة من ملوك سومر تمر بموكبها في (گواهين) الهور…… 
هي تدرك حقوق الوطن وتجيد التغنج بالتضحية والإيثار ، وحب الوطن والناس دون أن تشوّه أيديولوجيتها العفوية ، بمشوهات الزمن المنهار، ومصطلحاته المصبوغة بالكذب والنفاق والشر والدم ، تعرف أن الإنسان حرٌ ،لا يسجد إلا لله ، سلعتها بسيطة فهي تقطع المسافات لتجمع القصب( والبردي ) من الهور، تبيعه بالسوق لتسد رمقها اليومي ، وتجهد نفسها فيضاً من جهد لتدخره لمحاربة الظلم رصاصاً ، لها سطوة في السوق ، فالكل يحترمها ويحسب لها ألف حساب ، حين تدخله (تسواهن)  ، يهرب الظلم وتحل الحرية والوطن شذرات تلمع في جيدها السومري ، يلتف حولها من يروم أخبار الشهداء والجهاد ، تسلم الأخبار جدولاً لجميع أهالي الفارين من الظلم  والخدمة العسكرية ، والمتسترين في ظلال القصب والبردي في الأهوار …..

تشتري بفيض ما تملك من نقود لعملها اليومي المضني حاجيات ورصاص لمجاهدي الأهوار من شباب مظلوم ومن فرّ من جيش الظلم ، وعقابه القاسي ، بقص الأذن والإعدام رمياً بالرصاص ، كجزء من واجبها الوطني والإنساني ووفائها لهؤلاء الشباب المظلومين ، كما تعتقد هي ، تعود في الصباح الباكر للأهوار لتسلم تلك الحاجيات لشباب الأهوار ، وتداوم على عملها المضني من جديد ، لتكسب رزقها كدورة الحياة ، ليل ونهار ، وفي ظروف كتلك لابد للشر من صولة ، وللخيانة من سطوة وغدر، وتترصد عيني الخيانة التي لا تخطئ خيراً ، ولا تبخس شراً  قدره ، تلك الهالة الإنسانية وتلك القامة الوطنية ، وتطمس الحرية بين القصب والبردي ،عروس ليلة زفافها ، تزفها الملائكة عروس كلكامش ، الذي لا يزال يبحث عن الخلود ، ليخلد تلك القامات السومرية التي رسمت حدود سومر ، والعراق بالدم وأشكال التضحيات ، التي أذهلت كل طامع ، وقطعت رجليه من أرض الوطن ، طلقة حمقاء واحدة ، يا ويلها ، وهل تموت الحرية بطلقة حمقاء….!؟ ، مست الطلقة قلب (تسواهن) وهي تستأذنها باختراق شغاف هذا القلب الكبير ، الذي حمل العراق بين جنبيه ، أحسّت (تسواهن) بحرارة دموع الطلقة وهي تعتذر وتنتحب ، فالطلقة أشرف من مطلقها…. 
وصرخ البردي والقصب بأعلى صوته :
 -” لقد جرح العراق ، وماتت الحرية….!؟” تحركت (تسواهن) ورفعت رأسها المتدلي في الماء كشجرة ياس هزها الريح فانتشرعبقها في أرجاء الهور وقالت آخر كلمة أبكت الهور و القصب والبردي : -” لا…..لا…الحرية لم تمت….!؟” 
صرخ البردي والقصب مع صوت (تسواهن) وهي تشيعها الملائكة ، وتصعد بها فوق أطراف القصب والبردي : 
-” لا …..لا…..لا…..الحرية لم تمت …!؟” 
وصار صوت (تسواهن) أغنية يغنيها القصب والبردي مزاميراً تعزف نشيداً يتغنى به الأطفال ، قضّ مضجع الطغاة ، ومزق دروعهم وشتتهم بين المشانق والحفر كالجرذان المذعورة ، ولدت (تسواهن) آلاف القامات السومرية التي بدأت تعزف لحن( تسواهن) ، لحن الحرية الخالد ، وترعب الطغاة وتهز كراسيهم الهشة….. ووجهت كلامي لجليسي الراوي السيد ناصر اليعقوبي : 
    ” أليست( تسواهن) تسواهم وتسواهن فعلا ….!؟ “
 
ضحك السيد ناصر لقولي معتقداً ، أني ألقيت لغزاً ، ولكنه بعد ثواني ضحك حتى انقلب على قفا ه ،  أيقنت حينها أنه أدرك قصدي تماماً…..  
 تسواهن = اسم امرأة شعبي منتشر بين سكان الأهوار ويعني أيضاً الأفضلتسواهم = أفضل منهم
البردي = نبات في الأهوار يستخدم علف للحيوانات ويصنع منه الورق
المردي = عود من خشب أو خيزران يستخدم في تحريك الزوارق يدوياً
الگواهين = هي مسارات مائية عميقة في الأهوار لا ينمو فيها القصب فتكون كالشوارع تمر بها الزوارق