ما أن بدأ العدوان الثلاثي على مصر في 29 تشرين الثاني العام 1956.. الذي شاركت فيه كل من (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) حتى انطلقت التظاهرات الطلابية والجماهيرية في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.. وفي اليوم الثاني شاركت مدرستنا (ثانوية غازي) في التظاهرات التي غص بها شارع الرشيد باتجاه باب المعظم.. والكل يهتف (تأييداً لمصر وتنديداً بالعدوان.. وبسقوط حكومة نوري السعيد الخائنة).. وغيرها من الهتافات التي تندد بالحكومة ونوري السعيد رئيس الوزراء لدعمهم العدوان ..
عند وصولنا ساحة الأمين (الرصافي حالياً) هجمت الشرطة على المتظاهرين بالهراوات في محاولة لتفريقهم.. لكن المتظاهرون رموا الشرطة بالحجارة.. واستطاعوا الاستمرار في سيرهم.. بالرغم من إلقاء القبض على العديد من المتظاهرين.. وعند وصولنا ساحة الميدان.. التي كانت مطوقة من قبل الشرطة بشكل كامل.. هجمت الشرطة على المتظاهرين.. واستطاعت تفريق التظاهرة.. واعتقال العديد من المتظاهرين من بينهم (11) طالباً من مدرستي.. كنتُ (أنا) أحدهم.. واقتادونا إلى مركز شرطة السراي القريب من ساحة الميدان.. ووضعونا نحن الصغار في النظارة.. وسمحً لنا ضابط المركز بالاتصال بأهالينا هاتفياً وأبلغناهم الأمر.. سألنا بعض المعتقلين من كبار السن عن أعمارنا وأسمائنا.. فأعطيناهم أسماءنا.. وقلنا لهم جميعنا أعمارنا 16 سنة ..
ويبدو إن هؤلاء المعتقلين أرسلوا فوراً أسماءنا وأعمارنا إلى السفارة المصرية في بغداد.. التي أبرقتها إلى إذاعتي القاهرة وصوت العرب.. وما هي إلا ساعتين.. وإذا بصوت المذيع المصري المعروف أحمد سعيد يلعلع من إذاعة صوت العرب معلناً: (إن النظام الرجعي ألسعيدي في العراق يزج في السجون حتى الأطفال والفتيان.. وقرأ أسماؤنا : الفتى هادي.. والفتى احمد والفتى حنا.. و .. .. و …. الخ ) ..
وفي حوالي الساعة الخامسة عصراً خرج ضابط المركز إلى الباب الخارجي مسرعاً.. وعادً يسير إمامه ثلاثة رجال في الوسط رجل كبير السن (أشيب).. وأدخلهم غرفة مدير المركز.. ليخرج علينا مدير المركز.. ويقول: (ادخلوا ولا تتكلموا إلا عندما تسألون) ..
وفي الغرفة جلسً على كرسي مدير المكتب الرجل الشايب فيما يقف الشخصان الآخران إلى جانبيه.. سألنا الشايب: انتم كنتم في التظاهرات ؟.. فقال أحدنا وهو يبكي: أبداً لم نكن.. سألنا عن مكان مدرستنا وأماكن سكنانا.. ثم وجه كلامه لنا: مدرستكم في منطقة ألسنك.. وبيوتكم قريبة منها.. كيف جئتم إلى منطقة الميدان.. والدنيا مقلوبة وتظاهرات ؟.. وأشار على أحدنا.. وقال له: ماذا تقول ؟ سكتً صاحبنا ولم ينطق.. فأشارً عليً: أنت أجبني.. قلتُ له: كنا في التظاهرات.. قال :وماذا علمتم..قلتُ : كنا نهتف ضد العدوان وضد الحكومة.. قال: (ماذا كنتم تهتفون ؟).. قلتُ له: (تسقط حكومة نوري السعيد الخائنة ).. ابتسمً ونظرً الينا.. وقال: (هل تعرفون نوري السعيد ؟).. قلنا : كلا.. التفتً إلى صاحبه.. وقال له : (سعيد بيك.. قل لهم من أنا ).. أستعدً سعيد بيك.. وقال : (سيدي : أنت الباشا نوري السعيد ).. ما أن أكمل سعيد بيك كلامه.. حتى تجمدً الدم في عروقنا .. وأخذنا نصبُ عرقاً.. وأجسادنا تختض مما سيجري لنا ..
نظرً ألينا الباشا نوري السعيد مبتسماً: وقال بصوت هادئ : تريدون تروحون لبيوتكم هسه.. هززنا رؤوسنا بالإيجاب.. فقال: (بشرط.. نطلع أنا وإياكم الى باب المركز.. ونهتف كلنا بصوت عالي.. نفس ما كنتم تهتفون بالتظاهرات.. بعدها تروحون لبيوتكم) ..
خرجنا سوية وصاح الباشا: يلله نهتف.. ولا واحد هتف.. وحتى صوتنا لم يخرج.. كرر الطلب.. ولم يفلح.. أخيراً بدأ هو يهتف بصوت عالٍ: (تسقط حكومة نوري السعيد الخائنة).. ونحن نردد بعده بصوت خجول إلى أن ارتفعً صوتنا.. وقمنا نهتف بلا خوف.. وهو يضحك ملً شدقيه.. ثم قال : (اذهبوا إلى بيوتكم).. وهربنا بسرعة.. وهو مازال يضحك.. وفد ركضه لبيوتنا بدون توقف ..
____________
ملاحظة : بعد ثورة 14 تموز 1958 عرفنا أن سعيد بيك هو (سعيد قزاز) الذي كان وزير الداخلية آنذاك.. والشخص الآخر كان (عبد الجبار فهمي) متصرف (محافظ) بغداد.. وذلك من خلال محاكمتهم العلنية في محكمة الشعب التي كانت تنقل عبر شاشات تلفزيون بغداد….. (عرب وين .. طنبورة وين) ..