تسطيح المأساة: حين يصبح الحزن طربًا

تسطيح المأساة: حين يصبح الحزن طربًا

منذ أن سُطّرت فاجعة كربلاء في ذاكرة الأمة، شكّلت قصائد النعي والرثاء الحسيني بُعدًا روحيًا وثقافيًا عميقًا، عبّرت عن “الوجدان الشيعي” وأحزانه المتوارثة على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام.
كانت هذه القصائد، بطابعها الحزين وكلماتها المتفجعة، تمثل صوت البكاء الجمعي، ووسيلة لاستذكار المظلومية، وتأكيد القيم التي استُشهد من أجلها الحسين عليه السلام.

– بين النعي والطرب: تحوّل في هوية القصيدة.
رغم أن بعض الرواديد ما زالوا يحافظون على الأصالة والرسالية، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلاً ملحوظًا في مضامين وأداء القصائد الحسينية، بإنزياح القصيدة ونغمتها تدريجيًا عن النمط الرثائي الباكي إلى نمط طربي غنائي، بل وغزلي أحيانًا، يُطغى عليه الإيقاع والإثارة.
هذا التحول.. لم يعد مجرد تجديد فني، بل أصبح تغيّرًا في البنية الرمزية والثقافية للقصيدة. فالكثير من القصائد تُبنى اليوم على كلمات ابتعدت عن روح المأساة المميزة للإمام الحسين بألحان مصاحبة تنحو بالواقعة والمأساة الى قصة حب دنيوي تتخللها كلمات الغزل والوله والعشق، بعضها مستعار من أغان شعبية. اضافة الى اخرى صحوبة بإيقاعات غريبة كـ”البندرية” ما يضفي طابعًا احتفاليًا غير منسجم مع طبيعة الذكرى.

– من البكاء إلى الأهزوجة.
هذا التوجه نحو تحويل القصيدة الحسينية إلى “أهزوجة” يُجردها من بعدها الرسالي والعاطفي، ويحوّلها إلى عرض فني ترفيهي. فبينما كان الرادود الحسيني يُبكي القلوب ويُثير الشجن، صار بعضهم يُطرب الآذان ويُحرك الأجساد.
وتتجلى هذه الظاهرة بشكل واضح في بعض منصات التواصل ” على تيك توك خاصة” حيث تُنشر مقاطع لفتيات أو شبّان يردّدون القصائد وكأنها اغاني للحب والعشق الدنيوي بلغة جسد وأداء لا تنسجم مع جوّ العزاء، ما يُضعف قدسية المناسبة ويحولها إلى مشهد استعراضي.

– المأساة بين التقديس والتسطيح
القضية الحسينية ليست قضية انسانية تتمحور حول مناسبة وجدانية فقط، بل هي محطة وعي أخلاقي وروحي وثوري، تحرك الوجدان نحو التغيير، ومقارعة الظلم والجهر ب”لا” عظيمة مزازلة للباطل منتصرة للحق،..
القضية ليست طقس جمالي مؤقت يُفرغها من مضمونها الإصلاحي، ليجعل من “عاشوراء” أيقونة عاطفية، تبعد الشعائر عن دورها الثوري
وتتحول إلى وسيلة ترفيه ناعمة، تخدر الشعور وتُميت الحزن بدلًا من بعثه.

– نحو أصالة الوعي الشعائري
” عاشوراء” ليست كرنفالا فنيًا، او ملتقى جماهيري ترفيهي يحتمل ألحانًا راقصة وأهازيج غزلية، بل فكرة وموقف ثوري متجدد يتطلب أدبًا يلامس عمق الحزن وصدق الرسالة، كما في قول دعبل الخزاعي:
“أفاطم لو خلتِ الحسين مجددًا…
لأجريتِ دمع العين في الوجناتِ”

ورثاء عقبة بن عمرو السهمي:
“مررت على قبر الحسين بكربلا…
وما زلت أبكيه وأرثي لشجوه”

وكما صوّر الشريف الرضي صدق الولاء واللوعة:
“صبغ القلب حبكم صبغة الشيب…
وصبغي لولا الردى لا يحول”

ـ خطوات عملية للإصلاح:
لضبط مسار القصيدة الحسينية والحفاظ على روحها، لابد من عملية إصلاح تواكب التجديد الذي من المفترض أن يكون في المعنى والوعي، لا في الشكل والمظهر، من خلال:
1. تشكيل لجان متخصصة لفحص النصوص والألحان قبل تداولها، لضمان انسجامها مع روحية عاشوراء.
2. تشجيع الشعراء والرواديد على العودة إلى الأساليب الأصيلة في الأداء والمضمون.
3. إنتاج قصائد واعية ومعاصرة، تعالج القضايا الاجتماعية والإنسانية من خلال روح القضية الحسينية (كالعدالة، ومواجهة الظلم، وحقوق الإنسان).

– في المنتهى لابد من الإشارة الى ان الحفاظ على قدسية المأساة الحسينية مسؤولية جماعية. مايعني ايقاف حالة التداعي بتحويل العزاء إلى طرب، وتسطيح الحزن إلى عرض، يُفرغ هذه المناسبة العظيمة من جوهرها.
لا بد من وعيٍ جماعي يحفظ لعاشوراء معناها، وللرثاء دوره في بناء الوعي والروح.

ومع كل اصيل …. يتماهى ويذوب وينتهي كل دخيل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات