17 نوفمبر، 2024 1:28 م
Search
Close this search box.

تسريبات حوار صريح جداً -17-

تسريبات حوار صريح جداً -17-

في مطلع القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد وخلال أحدى اللقاءات الإجتماعية في عاصمة أحدى بلدان الشرق الأوسط إستمعتُ الى تفاصيل حديث مهم جداً حول موضوع الأديان دار بين ثلاثة أساتذة جامعيين ذوي تخصصات علمية وأدبية متعددة، حيث أبتدأ الحديث أحد اولئك الأساتذة حينما توجه بسوأل الى زميليه الجامعيين قائلاً:

ماذا لو تخيلنا إفتراضاً أنّ جميع بشر الأرض في عصرنا الحالي صحوا من نومهم في أحدى الصباحات وقد مُسِحَتْ أو أفرِغَتْ مِنْ أدمغتهم جميع أفكار وثقافات الإنتماء الديني أو المذهبي؟

وهنا أجاب الأستاذيّن الآخريّن تباعاً بعد ثوانٍ من الصمت:

الأول:

أعتقد أن الحياة سوف تسير بشكل طبيعي بين البشر وتتم معالجة كل مشاكل الحياة اليومية وفقاً للقوانين والأصول الإجتماعية السائدة في كل مجتمع.

الثاني:

تماماً، بإستثناء عدد من أفراد كل مجتمع ممن كانوا يمتهنون مهنة رجل دين حيث سيتفاجأون بأنهم لمْ يَختاروا مهنة لهم لكي يعتاشوا منها!

الأول:

نعم، سيضطر اولئك الأفراد الى إيجاد مهنة مناسِبة ليَعملوا بها.

الثاني:

والشيء الثاني الذي سيتغيّر هو إختفاء الكثير من التمييز والكراهيّة الدينية والتي غالباً ما تكون موجودة بين مجاميع البشر التي تتوارث أدياناً أو مذاهباً دينية متعددة داخل  العديد من المجتمعات ولاسيما مجتمعات الشرق الأوسط منها.

الأول:

أمر منطقي.

الثاني:

الإنسان حينها سوف يظل، كما هو الآن، يتسأل عن (سِر) الحياة والموت، و(سِر) الكوّن، وسيعيد إفتراض فكرة وجود (خالق) لكل شيء، فهذا الإفتراض هو أسهل الطرق التي يتمكنها العقل البشري بإمكانيته العضوية الحالية، حيث أن هذا الإفتراض هو أسهل السبل للوصول الى الراحة النفسية إزاء ما قد يُجابهه الإنسان من أزمات الحياة اليومية أو ما قد يواجهه من حوادثٍ أو أمراضٍ إضافة الى مشكلة (الموت) المحتوم.

الأول:

وأنا أشارك الرأي أيضاً، فالتركيبة العضوية للعقل البشري لغاية يومنا تفترض وجود صانِع لكل شيء، ولا تمتلك التركيبة العضوية للعقل البشري الحالي القدرة على إدراك إحتمال آخر يُفسر أو يُبرر وجود شيء دون وجود صانع لذلك الشيء، وهذا ما يجعل الإنسان يفترض لغاية يومنا هذا وجود خالق خفيّ للكون والكائنات الحية، خالق ذي قوة سحرية مجهولة خارقة لكل قوانين الطبيعة.

دماغ الإنسان مازال لغاية يومنا هذا يعجز كلياً عن إدراك سِرّ الوجود وسرّ الحياة والموت، لذا فإن الإنسان يرتاح نفسياً حينما يُنْهي طريق عَجزِه بإفتراض وجود قوة خارقة وخفية مجهولة التفاصيل خالقة للكون والحياة وقد يكون ذلك الإفتراض صحيحاً!

الثاني:

العقل البشري بتركيبته الحالية يجعل الإنسان يتوقع أنّ الخالق المُفتَرَض للحياة والكون قادر على مساعدتِه في مُواجهة المشاكل والمتاعب أثناء الحياة على الأرض، مثلما قد يكون ذلك الخالق المُفترض قادراً على إعادة الحياة للإنسان بعد الموت، وكل ذلك يَمنح الإنسان راحة نفسية كبيرة.

الأول:

مَنْ يدّري! فقد تحصل طفرات وراثية في أدمغة الأجيال البشرية القادمة بحيث يصبح العقل البشري قادراً على معرفة المزيد من أسرار الكون وأسرار الحياة والموت!

 

أبتسم الأستاذ الجامعي صاحب السؤال الذي كان يستمع لإجابات زميليّه وكأنه كان مؤيداً لبعض أو كل آراءيهما، لكن هذا الأستاذ الجامعي تابع إثارة جوانب مهمة جداً أخرى في موضوع الأديان مع زميليّه سائلاً إياهما بالقول:

لنواصل المضي قدماً في إفتراضنا السابق، ولنفترض أيضاً أن جميع الأنبياء والرسل وقادة وموؤسسي الأديان السابقة أعادوا ظهورهم مرة أخرى بين بشر الأرض عديمي الأديان في العصر الحالي، فما الذي سيحدث؟  

الأستاذيّن الجامعيين أجابا قائليّن على التوالي:

الأول:

لا أحد مِن البشر في عصرنا الحالي سوف يصدّق أياًّ مِن اولئك الأنبياء وقادة وموؤسسي الأديان السابقين لو أعادوا ظهورهم الآن، بل ربما سيتم القاء القبض عليهم بتهمة الكَذِب والنصب والإحتيال!

الثاني:

أتفق معك تماماً، ففي عصرنا هذا لا يستطيع أحداً إدّعاء شيء دون أن يقدم دليلاً علمياً يستند عليه، فلا عاقل سيصدق مثلاً إدّعاء أحدهم بأنه وُلِدَ مِن إمرأة دون حصول تلك الإمرأة على حيمن رجل، مثلما لن يصدق عاقل إدّعاء أحدهم في أنه يطير سِرّاً من بلد الى آخر دون إستخدام وسائل علمية، مثلما لنْ يُصدِق عاقل إدعاء أحدهم في أنّ الله يتحدث معه سِراً ويُمّليه أفضل الكلام والأحكام، وهكذا.

أعاد الأستاذ الجامعي صاحب السؤال إبتسامته وقد بدتْ عليه علامات القبول لإجابتي زميليه، لكنه تابع منهجه في إثارة الأسئلة الغريبة قائلاً:

ما رأيكما في أني شخصياً بإستطاعتي وبكل ثقة تأسيس دين جديد في أيّ وقت أو في أيّ مكان وسواءاً  كانت الأديان السابقة موجودة أو غير موجودة بين البشر!

الأول:

أنك تمزح!

الثاني:

أمر غير معقول!

الأستاذ صاحب السؤال:

لا أمزح مطلقاً!

الأول:

كيف ذلك؟

الثاني:

حقاً كيف؟

الأستاذ صاحب السؤال:

أتمكن من تأسيس دين جديد بمجرد أنْ أمتلك (مالاً) وفيراً أستطيع فيه شراء قناعات الآلاف والملايين من البشر في أنّي إنسان أختاره الله لكي أقوم بنقل رسائله وأحكامه ووصاياه الى البشر!

الأول:

وهل ستتمكن من صنع المعجزات التي تثبت بها بأنك إنسان غير عادي وأن الله هو الذي أختارك للتواصل مع الناس بإسمه؟

الأستاذ صاحب السؤال:

بالتأكيد، فـ (المال) يستطيع أنْ يُقْنِع الكثير مِن البشر بكل شيء يُريد صاحب المال قوله، فلا تستغربان أنْ قلتُ لكما بأني أستطيع جعل الكثيرين يقتنعون مثلاً بأنهم شاهدوني بأنفسهم وأنا أحمل ثلاثة جبال شاهقة على كف يدي اليمنى وأنا أحلّق بجسمي وبهم في السماء لساعات طويلة، مثلما أستطيع جعْل الكثيرين يقتنعون مثلاً بأنهم شاهدوا بأنفسهم نزول شريعة الله الدينية عليّ بشكل أوراق ذهبية تحوي كل أحكام الدين الجديد مكتوبةٍ بسبعة وسبعين لغة من لغات العالم، ومعجزات أخرى لا تعُدّ ولا تحصى لكثرتها!

الثاني:

كيف ستوزع (المال) الذي تشترط إمتلاكِه لتستطيع به تأسيس دينك الجديد؟

الأستاذ صاحب السؤال:

المال يُوزّع بأشكال وسبُل مختلفة، فمرّة يُعطى بشكل نقدي ومباشر، وأحياناً أخرى يُمنَح المال بشكل مَناصب دينية أو مواقع إجتماعية، وأحياناً يُمنح المال بشكل مُتعة جنسية، وفي كل الأحوال هناك الكثير مِن البشر مِمَن يستطيع إقناع نفسه بأي شيء يطلبه منهم مَنْ يُقدّم لهم فلوساً أو سلّطة أو مُتعة جنسية.

الأول:

وهل تعتقد أن قيامك بتأسيس دين جديد هو أمرٌ سهل الى هذه الدرجة؟

الأستاذ صاحب السؤال:

نعم، سهل جداً تأسيس دين جديد طالما توفَرَ الشيء الصعب الا وهو (المال)!

الثاني:

لا أستطيع إدراك كيف سيصدقك الناس وانت تكذب عليهم؟

الأستاذ صاحب السؤال:

(المال) هو صانع المعجزات بين البشر، فهو القادر عموماً على منْح السلطة والفرَح والمتعة الجنسية لمالكه، وما على مَنْ يُريد تأسيس (مشروع) دين جديد سوى الكَرَم في توزيع المال على عدد محدود مِن البشر المحيطين به، وبعدها سيقوم ذلك العدد المحدود مِن البشر بالترويج والمتجارة بالدين الجديد مُحققين أرباحاً وفيرة تمكنهم مِن إعادة ما أستلموه مِن أموالٍ لمؤسس الدين الجديد أضافة الى ما سيَحصلون هُم عليه من أموال وسلطة ومتعة جنسية. 

الأول:

إذا إفترضنا صحة قدرتك على تأسيس دين جديد بعد أمتلاكك مالاً وفيراً، فكيف ستجد مضموناً متميّزاً للدين الجديد؟

الأستاذ صاحب السؤال:

ذلك أمر أبسط بكثير مما تتصور، فعند رغبتك بتأسيس أيّ دين أو مذهب ديني جديد فما عليك سوى أنْ تفعل ما يلي:

أنْ تتصرف كأيّ سياسي يعمل على تأسيس حزب سياسي جديد، فالأحزاب السياسية هي صورة من صور التطور الوراثي والتاريخي لـ (سُلالة) منظومات الأديان والمذاهب الدينية.

نعم، حينما تحصل على مالٍ وفير يكفي لإعلان تأسيس مشروع دين أو مذهب ديني جديد، عليك أن تُؤكد على ما يُريح الناس تماماً كما يفعل مَن يُريد تأسيس حزب سياسي جديد.

ما يريده الناس ويُريحهم نفسياً ودينياً هو أن تؤكد لهم صحة وجود الخالق (الله) الذي يرى ويسمع كل شيء وأنّ ذلك الخالق هو الذي سيعيد الحياة الأبدية للإنسان بعد الموت.

عليك أن تؤكد للناس إنك تتحدث بأسم ذلك الخالق (الله)، مثلما عليك أنْ توضح لكل الناس انّ تصديقهم لك هو طريقهم الوحيد لنيل رضى (الله) عليهم.

نعم، عليك حينما توؤسس لمشروع سياسي وتجاري كمشروع الدين أو المذهب الديني الجديد أنْ تقوم بالتأكيد على كل الصفات والأخلاق الحسنة التي يتمنى الإنسان أنْ يُعامله الآخرون بها، كالصدق والمساواة والعدل والتسامح والرحمة وحسن التعامل مع الأبوين ومساعدة المحتاجين وغيرها من الأخلاق الحسنة المعروفة إجتماعياً، ثم عليك أيضاً أنْ تعِدَ الناس برضا الله عليهم وبالنجاح في حياتهم على الأرض وبحياة جديدة سعيدة بعد الموت فيما لو إتبعوا دينك الجديد.

عليك أيضاً إما أنْ تدعي بأنك جئت لإلغاء الأديان السابقة لكونها غير صحيحة أو تدّعي بأنك جئت لتكملة الأديان السابقة أو لتعديلها بأمر مِن الله، وهنا بإمكانك أنْ تَصْطنِع عدداً مِن الأختلافات حول أساليب وطقوس العبادة لتمييز دينك الجديد عن الأديان السابقة، فالناس سوف تُصدقك وتتبع دينك أو طائفتك الدينية الجديدة طالما أنك تدفع الأموال للبعض منهم، وسيقوم المستفادون منك بتولّي الترويج للدين أو الطائفة الدينية الجديدة مع قيامهم ذاتياً بإختراع الكثير من الأكاذيب لتبرير أو إقناع الناس بالدين أو الطائفة الدينية الجديدة!

الثاني:

سأفترض صحة نظريتك وما تعتقده حول قدرتك على تأسيس دين أو طائفة دينية جديدة ولأتساءل هل إنك فعلاً ستعمل على تحقيق الأخلاق الحسنة التي ذكرتها بين أفراد مجتمعك فيما لو أتيحت لك فرصة تأسيس دين جديد أو طائفة دينية جديدة؟

الأستاذ صاحب السؤال:

عموماً أنّ الدعوة الى الأخلاق الحسنة هو أمر أساسي في مباديء كل الأديان والطوائف الدينية رغم نسبية تفاصيل تلك الأخلاق، لكن العمل الفعلي لتحقيق الأخلاق الحسنة لا يَخدم فعلياً موؤسسي أو رجال أيّ دين أو طائفة دينية قديمة أو حديثة، فوجود نظام إداري وإقتصادي وقانوني حديث يعمل على بناء وإدارة مجتمع متكافل يضمن العيشة الكريمة للجميع سيؤدي الى إفلاس رجال الدين ومعابدهم، وبالمناسبة فأني أتساءل هنا:

هل رأيتما طيلة حياتكُما رجل دينٍ أو إنسان ملتزم دينياً أو مذهبياً وهو يتصرف بِعدلٍ وحُسنِ خُلِقٍ حينما يكون هو طرفاً في تنافس أو نزاع ما؟

الثاني:

دعونا أولاً نتفق على أنّ الأخلاق الحسنة تعني أن يقوم الإنسان بالتعامل مع غيره من البشر بنفس الطريقة التي يتمنى هو أنْ يعاملوه بها، فالإنسان يتمنى مثلاً أنْ لا يحتال الآخرون عليه، لذا فأن هذا الإنسان سيكون ذو أخلاق حسنة لو لا يحتال هو الآخر على غيره من البشر وهكذا.

الأخلاق الحسنة للإنسان تكون حينما لا ينتقص الإنسان من حقوق الآخرين المماثلة لحقوقه، بينما يتمّ وصْف الأخلاق المتميزة لأنسانٍ ما حينما يتنازل ذلك الإنسان عن بعض حقوقه متطوعاً ودون مقابل من أجل مساعدة أو إنقاذ الآخرين، كما يتمّ وصْف الإنسان بالأنانية في حال حاول التجاوز على بعض حقوق الآخرين المماثلة لحقوقه وقد يتضخّم الوصْف الأخير الى مستوى الجريمة في حال حاول الإنسان الإنتقاص أو مصادرة حقوق الآخرين المماثلة الى حقوقه.

التكوين العضوي للإنسان مع مجموعة تأثيرات ما يحيطه به في فترات الطفولة والمراهقة من ظروف إقتصادية وإجتماعية وثقافية هو الذي غالباً ما يحدد درجة جوّدة الأخلاق المُتوقعة لذلك الإنسان حين نُضوجه، لذا غالباً يكون من الخطأ توقُع أنْ يُغيّر إنسان سُوءَ أخلاقه بمجرد التزامه الديني أو عمله في مهنة دينية، مثلما ثبِتَ لي بأنه غالباً يكون مِن الصحيح تَوقُع أنْ لا يتغيّر الإنسان ذو الأخلاق الحسنة الى إنسان سيء الأخلاق لمجرد عدم التزامه دينياً أو عدم عمله في مهنة دينية.

الأول:

طبيعة كل إنسان تُملي عليه تحقيق مصالحه الذاتية دائماً، لكن ما يُميّز درجة الأخلاق الحسنة عند إنسان ما عن غيره، هو أنّ الإنسان ذو الأخلاق الحسنة يُحقق مصالحه الذاتية الى الحدود التي لا يتجاوز فيها على المصالح الذاتية المماثلة للآخرين.

الثاني:

ما توصلتُ اليه مِن تجربة خمسة عقود من العُمْر هو أنّ أسوء مواقف التجاوز المُتوقعة على الحقوق الآخرين في أغلب المجتمعات الشرقية ولاسيما مجتمعات الشرق الأوسط منها هي غالباً تلك التي تحصل حينما يكون بعض رجال الدين أو بعض الأشخاص الذين يدّعون الإلتزام الديني أو المذهبي طرفاً في صراع أو نزاع مع الآخرين، وذلك حينما يلجأ رجل الدين أو الشخص الملتزم دينياً بصورة مقصودة أو غير مقصودة الى شتى سبل اللف والدوران للنيل من حقوق الطرف المُتنازع معهم عكس ما هو مُفتَرض تماماً في أخلاق وسلوك رجل الدين أو الشخص الملتزم دينياً.

يتبع ..

أعلاه هو الجزء الأول من مقال ( تسريبات حوار صريح جداً ) من كتابي الموسوم بـ ( أحترمُ جداً هذا الدين) والمنشور في اسواق الكتب عالميا عام 2021 بأكثر من تسع لغات واسعة التداول.

مؤلف عراقي – مستقل فكرياً وسياسياً

أحدث المقالات