23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

تكاد أن تكون الثيمة المميزة للثقافة بمفهومها النقدي, مرهونة بالتمييز بين المثقف العضوي والمثقف الآخر, اللاعضوي, أو التقليدي أو الذي يسمى بتسميات أخرى. حتى لِتجد نفسك أحياناً, في نسق فكري شبه جامد, يهوى نقل المفاهيم كما هي, محاولاً تشغيلها في سوق الثقافة. تارةٌ لأجل نيل السبق, وتارةٌ أخرى لأنّنا نعتقد بان هذا هو كل مانحتاجه. والقلة من الأفذاذ هم من يرفدونك بزبدتهم الفهمية الخاصة عن المفاهيم المستوردة.

تعود نظرية المثقف العضوي للفيلسوف الإيطالي المناضل “أنطونيو غرامشي” المولود سنة 1891 في جنوب إيطاليا, ولاقت رواجاً كبيراً بعد الحرب العالمية الثانية, لما شهدته تلك الفترة من مد شيوعي قوي حول العالم. وبملاحظة أن غرامشي كتب أكثر أفكاره في سجون الفاشية الإيطالية, التي قضى فيها عشر سنوات, بحجة زعزعته لأمن الدولة, ومات بعد الخروج منها بقليل. من هنا يمكن أن ندرك لماذا راجت نظرية غرامشي؟ لأن الحركات الثورية؛ تستهوي المناضلين المُكافِحين وصورهم الرومانسية. تدل سيرة غرامشي على أنه قضى حياته السياسية, والتي بدأها مبكراً, وهو يدافع عن الشغيلة, والتي كانت تعاني من اوضاع سيئة, لإستغلالها من قبل الطبقة الرأسمالية.

تتلخص نظرية غرامشي عن المثقف, في أن كل البشر مثقفين, ولكنهم لايملكون الوظيفة الإجتماعية للمثقفين, وهي وظيفة لايملكها إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية, الذين يمكنهم التأثير في الناس. من هنا يستنتج غرامشي ان هناك فرق بين المثقف التقليدي (العادي) والمثقف (اللاتقليدي) العضوي. فالمثقف التقليدي, يعيش مع مثالياته معزولاً عن المجتمع, ويعتقد بأنه أرقى من الجميع. في حين ان المثقف العضوي, يحمل هموم كل الفئات المظلومة في المجتمع, ويدافع عنها. وعليه, فالمثقف العضوي هو المثقف الحقيقي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته, وأن أي مثقف -كما يقول غرامشي- لايتحسس آلام شعبه لايستحق لقب مثقف,  حتى وان كان يحمل أعلى الشهادات الجامعية.

أغلب المؤمنين بنظرية غرامشي يتحدثون لنا لهذا الحد عن النظرية, او ان هذا هو كل مايُركزون عليه منها. ولكن لِنُتابع مع غرامشي وهو يتحدث عن نظريته : أن الحزب الثوري هو وحده القادر على تكوين طبقة جديدة من المثقفين العضويين, المرتبطين بهموم الناس وقضايا العمال والفلاحين. إن هؤلاء المثقفين العضويين يمكنهم أن يشكلو هيمنة بديلة عن الهيمنة الرأسمالية. فالبرجوازية تخشاهم وتعرف إن نفوذهم كبير, لذلك تحاول ان تشتريهم بأي شكل من الأشكال.

إذن, فالأمر لايعدو عن كونه إحلال هيمنة محل هيمنة أخرى !. إحلال هيمنة البروليتاريا بمثقفيها العضويين محل الهيمنة البرجوازية بالأنتلجنسيا خاصتها. إذا وسعنا الأمر, فهو صراع كان يدور بين الشرق السوفيتي والغرب الأميركي. ما شأن مجتمعاتنا النامية بذلك؟, لماذا تستورد لنا المفاهيم المتولدة من رحم الصراعات؟. فغرامشي يريد حزباً ثورياً وعقائدياً, ومجتمعاتنا بلا مفاهيم واضحة. تجمعاتنا السكانية أثبتت بأنها غير متعايشة وعادت تبحث عن الإختلافات العرقية والطائفية, بعد ان عصفت بها المحن !.

مجتمعاتنا بحاجة إلى إطافئيين وإصلاحيين حقيقيين, لا أيديولوجيات مأزومة, تولدت كرد فعل على هيمنة البرجوازيين. يمكن -إذا جاز تجزئة الأفكار- أن تكون نظرية غرامشي مفيدة, بالنسبة لنا, في شقها الأول فقط, بعد أن نسمي هكذا مثقف “بالمثقف المنتج”. فلم نكسب من الأحزاب الثورية سوى الفاشية, المُتفشية فينا, أفراداً وجماعات, تلك التي يتساءل “كيفن باسمور” عن كيفية فهمها بقوله:

كيف لنا ان نفهم أيديولوجية جذبت المتطرفين والمثقفين؟ أيديولوجية تندد بالبرجوازية وفي الوقت ذاته تشكّل تحالفات مع المحافظين؟ أيديولوجية تتبنى نمطاً ذكورياً ومع ذلك تروق لعدد كبير من النساء؟ أيديولوجية تدعو للعودة للماضي وفي الوقت نفسه مفتونة بالتكنلوجيا؟ أيديولوجية تعظِّم من الشعب وفي الوقت عينه تحتقر الجماهير؟ أيديولوجية تدعو للعنف بإسم النظام؟ إنها الفاشية! كما وصفها أورتيجا جايست: دائماً ((الشيء ونقيضه)).

تاريخنا الحديث تقريباً, ومنذ تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 هو تاريخ مُستورِد للمفاهيم. فالملكية كفهوم للحكم, تولدت من رحم الإنتداب البرطاني. الثورات لم تخرج من رحم الشعب. كانت رؤية لبعض كبار الشخصيات العسكرية, بعد حصولها على تطمينات من الخارج, وأخيراً التغيير مابعد 2003 كان بالدبابة الأميركية. لا الشعب في كل ذلك, كان يفهم مايجري, ولا المثقفين كانو يهيئونه لفهم الأحداث الحاضرة والمستقبلية. المفاهيم التي لاتخرج من رحم الشعب تبقى غريبة عنه. أيديولوجيا الإسلام السياسي مثلاً, ورغم التأريخ الطويل الذي جيرته لصالحها, لم تنجح في إستقطاب كل السنة أو الشيعة, لكونها تتعدى مسألة العقيدة الدينية, وتتجاوزها سعياً للحكم, وهذا نابع من كونها أيديولوجية وصولية, شكلانية المفاهيم. الشعوب بحاجة لتقريب الصورة دائماً, لكي تتماها مع المفاهيم التي يُنادى بها. وهذا هو السر الذي جعل رجال الدين الذين يعتلون المنابر أكثر قرباً للشارع, من المثقف المتمنطق بمفاهيم الحداثة الغربية, لأنّها مفاهيم عابرة للحدود, قافزة على الظروف الذاتية للشعب.

تأريخنا النقدي هو تاريخ أشخاص أكثر منه, تأريخ تيارات فكرية. رجالات وقفو فُراداً ضد التيار السائد, وبالتالي بقيت أفكارهم حبيسة الكتب, ولم تتعدى أكثر من جماعات صغيرة من المشتغلين بالثقافة. وعلي الوردي كسيسيولجي, خير دليل على ذلك, في تاريخنا القريب.

التيار المدني في العراق, ورغم كثرة الملاحظات عليه, كعدم وجوده فعلياً على الأرض, , وعدم إمتلاكه لإستراتيجية واضحة عن برنامجه السياسي, والتي لم تكن أكثر من وعود ديماغوجية بتخفيض الرواتب, ووعود أخرى أقل أهمية, إلا أنه يكشف لنا عن بون شاسع بين الحداثة والجماهير. فبعد الإنتخابات البرلمانية التي جرت في سنة 2014, لم ينجح سوى ثلاثة مرشحين من هذا التيار في الدخول للبرلمان, من مجموع أعضاءه الذي يتجاوز عددهم الثلاث مئة !. وليس القصد من ذلك هو محاولة فرض التيارات التي تتبنى للمفاهيم الحداثوية على الجماهير, بقدر ماهي محاولة لفهم سبب هذا الجمود الجماهيري على تيارات تنتمي للماضي وأغلقت أبوابها عن المفاهيم التحديثية, ومازالت مع ذلك, مرغوبة من قبل فئة كبيرة من الشعب, على الرغم من انها لم تقدم شيئاً يذكر بعد وصولها للحكم. السبب في ذلك, من وجهة نظري, أننا لانمتلك نخبة ثقافية فاعلة, لا عضوية ولا إنتليجنسيا. حيث يقع على المثقف واجب إفهام المجتمع حقيقة مايجري لأموره المصيرية, إضافة إلى وظيفته الأساسية المتمثلة بالنقد التقويمي, وإثارة الجدل الفكري حول القضايا الحساسة في المجتمع. المثقفين أما منعزلين بيأس عن الشعب أو نفعيين يبحثون من الفرص قريباً من السلطة. نخبة كهذه لايمكن ان تلعب دوراً فاعلاً في بلورةِ تغييرٍ ما, والفساد يطال الكثير من شخوصها, كما هو حال الكثير من جوانب البلد.

تثبت تواريخ المجتمعات المتقدمة, أنها وجدت على الدوام, مثقفين شجعان وقفو بالضد من عجلتها المنحرفة. وقفو يرشقونها بنقدهم القاسي بلا خجل ولا مبالاة. مجتمعات حظيت بأشخاص إختارو أن يتحررو وراء الحدود التي تضعها حكمة جيلهم المزعومة.

ولكن لماذا نالت مجتمعاتهم مالم ننل؟, لااعتقد بأني أملك جواباً شافياً لهذا السؤال, ولكن يمكن أن أقول بأن مثقفيهم النقديين لم يكونو مهوسيين بنقل المفاهيم الجاهزة لمجتعاتهم, تلك المفاهيم التي تشبه بنت جميلة, ترفض الزواج خارج بيت أهلها. كانو ذاتيين في نقد السلبيات التي تفصح عنها مجمعاتهم.

بمناسبة السؤال المطروح, لنأخذ مثالاً, يُقرب الصورة, ونتناول جانباً من نقد ليو تولستوي للمجتمع الروسي, بنظرته الذاتية, التي لم تتعدى شخصيته الفذة. وهو نقد ينحصر ضمن فترته التأريخية بالتأكيد, ولكنه يكشف لنا عن نظرة شجاعة كان يمثلها تولستوي. يوجه تولستوي نقده للثقافة بوجه عام, تقريباً, بماينضوي تحت هذا المفهوم الشاسع من تعليم, وفن وكتابة, ومفاهيم دينية وللمشتغلين بها أيضاً.

يرى تولستوي بان وضع الشعب لن يتحسن مالم ترتفع عن عنقه البيروقراطية القيصرية والتقدميين أيضاً (المثقفين بمافيهم الليبراليين والإشتراكيين) كما كان يسميهم تولستوي. لأنهم مغرورون ونظريون ويتعاملون بالتافه من القضايا.

كان تولستوي تربوياً أيضاً, ومهتماً بالتعليم, ويدافع دون هوادة عن النظرية القائلة بأن الكائنات البشرية أكثر تناغماً وإنسجاماً في طفولتها مما تكون تحت التأثير المفسد للتعليم في الحياة التالية, حيث يعتقد تولستوي بأن الإنسان يولد كاملاً.

يدور فكر تولستوي النقدي حول النزاع المركزي بين الطبيعة والتطبع. فالموهبة عنده ليست ممنوحة منحاً متساوياً للجميع, ولكن كل أحد يستطيع, لو أنه حاول, أن يكتشف ماهو الجيد وماهو الرديء, وما هو المهم وما هو التافه. والنظريات الزائفة (المصنوعة صنعاً) هي وحدها التي تعمي أبصار الناس والكُتّاب عن هذه الحقيقة, وتشوه حياتهم ونشاطهم الإبداعي.

مجتمعنا ليس منسجماً مع نفسه, ولاهو مكون من اشخاص متناغمين داخلياً مع أنفسهم. فمصالح الأقلية المتعلمة – من يدعوهم تولستوي بالأساتذة والبارونات والصيارفة- انما هي مصالح متناقضة مع مصالح الأغلبية, أي الفقراء والفلاحين. وكل جانب من هذين الجانبين عديم الإكتراث بقيم الجانب الآخر أو هو يسخر منها. حتى أولئك الذين هم أولينين وبير ونوخليودوف وليفين ( أسماء تطلق على الفقراء في العادة) يدركون زيف قيم الأساتذة والبارونات والصيارفة ويدركون الإنهيار الأخلاقي الذي ورطهم فيه تعليمهم المزيف.

مانفع بوكشين (الملقب بامير الشعراء في روسيا) لدى صبيان القرية, حينما تكون كلماته عصية على الفهم عندهم؟ ماهي المنافع الحقيقية التي جاء بها إختراع الطباعة للفلاحين؟. ما هي إنتصارات المدنية؟ إن التلغراف يخبرني بشأن صحة أُختي أو بشان المستقبل السياسي للملك أوتو الاول في اليونان , ولكن أي منفعة تنالها الجماهير من هذا؟.

إن التصور بأن شخصيات بطولية تُحتم سير الأحداث, هو نوع من جنون تضخيم الذات وخداع النفس, وأن الفراغ والعِنَّة الفكرية لدى المؤرخين والفلاسفة الذين يحاولون أن يفسرو الأحداث بإستخدام مفاهيم مثل (القوة) التي يعزونها للرجال العظام أو (النفوذ) الذي يعزونه للكتاب والخطباء والوعاض, تعتبر كلمات تجريديه في نظر تولستوي لاتفسر شيئاً, لأنها نفسها أشد غموضاً وسديمية من الحقائق التي تدعي أنها تريد وصفها.

بتقدري, إن أكثر الجوانب إشراقاً في نقد تولستوي, هي تلك التي تناولها في مقالها الشهير ((ماهو الفن)). حيث يُخبر تولستوي القارئ المتعلم: أن الفلاح  بحاجة إلى ما اعطتك حياتك التي ظلت غير مسحوقة بالعمل المرهق. فقد كان لديك الفراغ الكافي لكي تبحث وتفكر وتتألم. إذن إعطه هذا الذي من أجله عانيت فهو بحاجة له … ولاتدفن في التراب الموهبة التي أعطيت لك … فالفراغ لايكون هداماً بالضرورة. وفي الإمكان حدوث التقدم, فنحن نستطيع ان نتعلم مما حدث في الماضي, تعلماً لم يستطيعه الذين عاشو في الماضي. من الحق ان يقال أننا نحيا في نظام ظالم. ولكن هذه الحقيقة بحد ذاتها تخلق إلتزاماً أخلاقياً مباشراً. فأولئك الذين هم أعضاء في النخبة المتحضرة, المنفصلون إنفصالاً مأساوياً عن جماهير الشعب, عليهم واجب هو أن يحاولو إعادة بناء الإنسانية المهيضة, وأن يوقفو إستغلال الناس الآخرين, ويعطوهم مايحتاجون له, كالتعليم والمعرفة والمساعدة المادية والقدرة على ان يحيو حياة أفضل.

قد لا اكون قادراً على أن أدمج نفسي بجماهير الفلاحين, ولكنني في الأقل أستطيع إستعمال ثمرة الفراغ الذي حصلت عليه ظلماً لنفسي, كما حصل عليه أجدادي (بإعتبار أنه ينحدر من عائلة ثرية), وإستعمال ثقافتي ومعرفتي ومهاراتي من أجل منفعة أولئك الذين جعل عملهم من فراغي ممكناً. هذه هي الموهبة التي لاينبغي أن أدفنها. إذ عليَّ ان اعمل من اجل تكوين مجتمع عادل, وفقاً لتلك المعايير الموضوعية التي يراها كل الناس, فيما عدا الفاسدين فساداً ميئوساً منه … والبسطاء من الناس يرونها رؤية أكثر جلاءً, أما المثقفين فيرونها رؤية غبشية, ولكن كل الناس يستطيعون رؤيتها لو أنهم حاولوا, وفي الحق أن القدرة على رؤيتها تشكل جزءاً مما يجعل الإنسان إنساناً.

حينما يُقترَف الظلم فان عليَّ واجباً أن أرفع صوتي عالياً وأعمل ضده, وليس ينبغي للفنانيين, أكثر مما ينبغي للناس الآخرين, أن يقفو مكتوفي الأيدي أمام الظلم. وإنّما يجعل الكتاب الجيدين, جيدين فعلا, هو بالدرجة الأولى قدرتهم على أن يرو الحقيقة – الحقيقة الإجتماعية والفردية, الحقيقة المادية والروحية- وعلى هذا النحو يعرضونها عرضاً بحيث لايُستطاع الهرب منها. فالإحساس بالمهمة مع وجود الموهبة والضمير الفني, يكون خاضعاً لحاجة داخلية لايمكن الهرب منها.. وإشباع هذه الحاجة هي هدف الفنان وواجبه معاً. وعلى هذا فليس هناك شيء أشد زيفاً من النظرة إلى الفنان على انه متعهد لتقديم المتعة أو أنه صانع ماهر, مهمته الوحيدة في ان يخلق شيئاً جميلاً على غرار الجماليين.

واجب المثقفين هو العمل من أجل مجتمع تسوده المساواة بدلاً من المجتمع الذي تسوده السلطة الغيبية او التسلط السياسي. القسر شر, وهذا أمر واضح بحد ذاته, وقد عرف الناس على الدوام انه حق, وعلى هذا فأن الناس ملزمون بالعمل من اجل مجتمع خالي من الحروب والسجون والإعدامات تحت أية ظروف ولأية أسباب, وعليهم أن يعملو من أجل مجتمع تكون فيه أعلى درجة ممكن التوصل إليها من الحرية الفردية. يرى تولتسوي أن التعليم يمكن أن يفعل كل شيء, فالجهل مسؤول عن البؤس واللامساواة والحروب.

أن الصانعين الحقيقيين للتاريخ هم مجموعة الأفراد المغمورين, الذين يُدّعونَ فيليكس وفيكتوري, على الرغم من ان المسؤولية توضع عنهم وضعاً مغلوطاً وتعزى إلى القادة والرجال العظام. ولو ان الناس الذين إسمهم “فيليكس وفيكتوري” رفضو أن يسيرو لما كانت هنالك حروب, ولو انهم كانو متعلمين وإستطاعو أن يقرأوا الصحف, ولو ان الصحف كانت تحتوي على الحقيقة بدلاً من الكذب, فهل كانو سيقبلون على الحرب؟.

كل نتائج المدنية, كالتلغراف والبواخر والمسارح والأكاديميات والآداب إلى آخره, لافائدة منها مادام واحد بالمئة من الشعب ينالون التعليم فقط. كل هذه نافعة, ولكن كما يكون العشاء في نادي إنكليزي نافعاً, لو ان أكله قد تم من قبل مدير النادي والطباخ فقط.

هذه الأمور قد خُلِقت من قبل كل السبعين مليون روسي ولكن لاينتفع منها سوى آلاف فحسب.

إذا ماعرضنا على الشعب أنواعاً معينة من المعرفة, ووجدنا ان لها تأثيراً سيئاً عليه, فإنني أتوصل إلى نتيجة مفادها أنه ليس الشعب هو السيء, لأنه لايهضم هذه المعرفة, ولا أن الشعب, على خلافنا نحن, لم يصل للنضج الكافي ليستوعبها. ولكن لأن هذا النوع من المعرفة سيء وشاذ, وبمعونة الشعب ينبغي علينا ان نعمل من أجل صياغة أنواع جديدة من المعرفة, أكثر تلاؤماً وإنساجماً لنا جميعا. وقد يسأل أحدهم: لماذا يجب علينا أن نفترض ان الفنون والعلوم التي لدى طبقتنا المتعلمة زائفة؟ لماذا تستنتج زيفها من مجرد كون الناس لاتفهمها؟. هذا السؤال من اليسير أن يُجاب عنه: لأن هناك ألوف منا, وملايين منهم.

نحن الأعضاء المثقفين في مجتمع فاسد فسادً عميقاً. إذا كنا نحن أنفسنا أشقياء وفاقدين للتناغم وتائهين, فما يمكننا أن نعمله سوى أن نحاول تغيير الأطفال الذين يولدون أصحاء, بحيث نجعلهم مشابهين لتكويننا المريض, ونخلق منهم كائنات مشلولة مثلنا. فنحن لا نستطيع ان نتجنب حبنا لأشعار “بوشكين” وموسيقى “شوبان” ونكتشف أن الأطفال والفلاحين يجدونهما غير مفهومين او مرهقين. فما الذي نفعله؟ نحن نصر على السير في طريقنا, فنقوم بتعليمهم حتى يبدو انهم أيضاً يتمتعون بهذه الاعمال الفنية او على الأقل يدركون لماذا نتمتع بها نحن. فما الذي فعلناه؟.

نحن نشهد كيف تتحطم الشخصية نتيجة الإصرار البروتستانتي على الطاعة العمياء, ونتيجة العقيدة الكاثوليكية بشان المحاكاة الإجتماعية ونتيجة المصلحة المادية والمركز الإجتماعي الذي يؤسس عليه التعليم الروسي.

إذا ما إستطاع أحد أن يساعد الأطفال والفلاحين, فان ذلك لايكون إلا بأن يجعل من الأيسر عليهم أن يتقدمو بحرية عبر طريقهم الغريزي الذي يسيرون فيه لاغير. أما أن يوجههم فذلك معناه ان يفسدهم, فالناس طيبون وليسو محتاجين سوى للحرية لكي يحققو طيبتهم.

يطرح تولستوي السؤال الآتي, ماذا كان تاريخ التعليم؟ ويجيب على سؤاله قائلاً :

كل الفلاسفة الذين تناولو موضوع التعليم بدءاً من “إفلاطون” إلى “كانت”, صرحو بأنهم يريدون شيئاً واحداً, هو تحرير التعليم من سلاسل الماضي, السيء الشرير, ومن الجهل الذي ساد فيه ومن اخطائه, وحاولو إكتشاف مالذي يحتاجه الناس حقاً ويلائمو المدارس الجديدة لهذه الحاجة. وهم بالنهاية لم يفعلو أكثر من إزاحة نيراً واحداً عن الأعناق لمجرد أن يضعو نيراً آخر مكانه. هنالك أيضاً فلاسفة مدرسيون أصرو على تعليم اللغة الإغريقية لأنها كانت لغة “أرسطوطاليس” الذي عرف الحقيقة. أما “مارتن لوثر كينج” فقد أنكر سلطة آباء الكنيسة وشدد على تلقين اللغة العبرية الأصلية, لأنها كانت, حسب رأيه, اللغة التي كشف بها الله الحقائق الخالدة للبشر. أما “بيكون” فقد نظر للمعرفة التجريبية للطبيعة ونظرياتها بأنها تناقض تلك التي نادى بها أرسطو. وأما “جان جاك روسو” فقد أعلن عن عقيدته في الحياة, الحياة كما ادركها هو وليس في النظريات. ولكنهم إتفقو جميعاً بشأن أمر واحد, ان على المرء أن يحرر الشباب من التسلط الأعمى لما هو أقدم, وكل واحد من هؤلاء وضع عقيدته الدوغمائية, الإستعبادية, التعصبية, مكان العقيدة الأسبق !.

إذا كنتُ واثقاً بانني أعرف الحقيقة وان كل شيء سواها خاطئ, فهل تُعطيني هذه المعرفة الحق بان أُشرف على تعليم الآخرين؟ وهل هذا اليقين كافي؟ وهل هي تتفق أم لا مع يقينيات الآخرين؟ أيكون لي الحق ان أُقيم الجدران حول التلاميذ وأمنع عنهم كل المؤثرات الخارجية, وأحاول ان أقولِبهم مثلما أشاء, على صورتي, أو على صورة إنسان آخر؟ والجواب عن هذا السؤال, كما يقول تولستوي متحمساً (للتقدميين) يجب ان يكون بنعم أو لا, فإذا كان بنعم فيكون لمدارس الكنائس ومدارس اليهود حقٌ متساوٍ في الوجود مثل حق جامعاتنا.

ينبغي علينا, في الأقل, ان نتوقف عن تعذيب الآخرين بإسم شيء لانعرفه نحن. كل مانعرفه معرفة يقين, هو مايحتاج له الناس حاجة فعلية. دعونا في الأقل ان نحوز شجاعة الإقرار بجهلنا وشكوكنا وإنعدام يقيننا. أننا نستطيع أن نحاول من اجل مايحتاجه الآخرين, من أطفال او راشدين, وذلك بان نخلع عن أعيننا نظارات التقاليد والتحيز والعقائدية الجامدة ونجعل في إمكاننا ان نعرف الناس كما هم في الحقيقة, والإصغاء لهم إصغاءً حريصاً ومتعاطفاً وفهم حيواتهم وحاجاتهم, واحداً واحداً, وفرداً فرداً. لنحاول على الأقل تزويدهم بما يطلبونه ونتركهم على أشد مايمكن من الحرية.

ولكن, هل يمكن أن نترك الأمور تقف عند هذا الحد, كما حاول الكثير من الليبراليين أن يفعلو؟. ذلك أن مسألة تطرح نفسها فوراً.. وهي كيف يتسنى لنا أن نترك تلميذ المدرسة والطالب حُرَّين ؟.

وذلك بان نكون محايدين حياداً أخلاقياً, بان نُلقي اليهما المعرفة بالوقائع وحدها, لا بالأمور الأخلاقية أو الجمالية او الإجتماعية أو الدينية, بأن نضع الحقائق او الوقائع امام الطالب ونتركهُ يسجل إستنتاجاته الخاصة به, من دون أن نسعى للتأثير عليه في أي إتجاه خشية من أن نلوثه بنظراتنا المريضة. ولكن أيكون ممكناً حقاً لمثل هذا الإتصال الحيادي ان يقع بين البشر؟

يخلص تولستوي إلى القول بان الناس يجب ان يتركو احراراً حرية مطلقة, كي يروا الحقيقة والزيف والطيب والخبيث والجمال والقبح بأعينهم هم ولا شيء سوى أعينهم وحدها, أي من دون وصاية من أحد.

كان هذا جانباً واحداً مقتطفاً من هنا وهناك من مقالات كتبها تولستوي في مراحل مختلفة من مسيرته المعرفية, الغنية بالفكر. المجتمعات التي تحظى بهكذا نوعية من المفكريين الأخلاقيين, لابد أن تتقدم.

ولكي لانبخس الناس أشياءهم. فللكاتب المعاصر “وليد المسعودي” تجربة نقدية مهمة, تتبنى الأسس العلمية والأكاديمية. يتناول فيها الكثير من الجوانب المهملة نقدياً في المجتمع العراقي, كنظام التعليم المدرسي والمغالطات التاريخية التي يتضمنها, والمعرفة التاريخة المغلوطة التي كُرست في الأزمنة السابقة, والدين والسياسة والأدب وغير ذلك. تجربة عقلانية فذة, لم تجد الإهتمام الذي تستحقه, ككل الأمور الجيدة في هذه الفترات العصيبة والمتلاحقة, من حياة المجتمع العراقي, والتي إمتازت, كلها تقريباً, بشيوع المفاهيم اللاعقلانية.

فيما عدا ذلك تبدو النخبة الثقافية وكأنها تسبح داخل إطارها النرجسي الخاص, ينحصر تركيزها على نقد المقدس, من ثكناته المتساهلة. ويجري التنظير على أن تياراً تنويرياً قد إنبثق. حتى أن أحد البارزين في هذا الإتجاه وهو الإعلامي والكاتب المعروف “سعدون محسن ضمد” أشار من موقعه في فيس بوك إلى مجموعة من الأسماء الذي يمثلون هذا الإتجاه ” التنويري ” والذين ذكرهم على سبيل المثال, كما قال. وكتب في يوم 20/ يوليو/ 2015:

“… هم مجموعة من خيرة المثقفيين النقديين، ممن خرجوا من رحم الحوزة العلمية وتخصصوا بنقد التجربة الدينية، في إطار مفارقة غريبة جداً.
ميزة هؤلاء أن شجاعتهم وصدقهم دفعت بهم إلى نقد الدين، أي؛ النمط الثقافي الذي يتنمون إليه، بوسائل نقدية مختلفة، ما انتج لنا تياراً تنويريا جاداً وفاعلاً.. لكن الدين لا يمثل النمط الوحيد الذي يسبب مشاكل للثقافة العراقية، بل هناك أنماط آيديولوجية أخرى، وهذه الأنماط تعاني من مشاكل جوهرية تنعكس سلبا على ثقافتنا وعلى حياتنا. والسؤال: لماذا لم يتخصص أحد من مثقفي تلك الانماط بنقدها ومراجعة أخطائها، لكي لا تتكرس وتستفحل؟!
صحيح أن الدين يمثل المشكلة الأكبر، لكن تجاهل المثقف لامراض النمط الثقافي الذي ينتمي إليه، وتحوله إلى نقد الأنماط الأخرى، يجعل منه شاهد زور ومروج بهتان.
غرابة المفارقة أن الدين، الذي يفترض بأنه يحجر على العقول، ويمنعها من التفكير خارج دوائره، لم يمنع ظهور الاسماء المذكورة اعلاه وغيرها، بينما ايديولوجيات اخرى فعلت ذلك، بل أن مثقفيها الخارجين عنها تركو التجربة من دون مراجعتها أو نقدها، وهو أمر يثير تساؤلات كثيرة جداً، عن اسباب هذه “الظاهرة” !

لاينكر أحد بأن المثقفين من أهل الرأي النقدي, يتعرضون للكثير من التهديدات بالتصفية الجسدية, نتيجة للرأي الذي يتبنونه, فعلى الرغم من زوال النظام البعثي, مازالت الأفكار تواجه بالرصاص.

ولكن لايمكن التنظير لظهور تيار “تنويري” جديد, وهو غير موجود فعلاً,. حتى أن الشخصيات التي طرحها الكاتب ليست على مستوى واحد من الفِداء. فتجربة السيد أحمد القبنجي, قد تكون الأخطر, لأنها تتناول أُسس العقيدة الدينية لدى المسلمين ككل, وتحاول تقديم تفسير جديد أكثر تسامحاً للعقيدة الدينية. نقد المقدس يتعمد على الحقائق المعرفية والجرأة أو الشجاعة الأدبية. ويمكن القول, في إطار تجريدي, ان هناك محاولات متصالحة مع التيار المُتغلب على المجتمع اليوم, حتى أنها قامت بتلطيف آرائها, أحياناً. ولكن يحسب لهذه الشخصيات أنها ماتزال صامدة في ظل إنتشار ” ثنائية الله والكاتم ” على حد تعبير أحد الكُتّاب !.

أعتقد أن ما يمكن أن يُطلق عليه “تنويراً” بشكل واضح, هو مايقوم به الكاتب والمحامي المصري “إسلام بحيري” والذي أثار الكثير من الجدل بسبب كتاباته في جريدة “اليوم السابع” المصرية ومناظراته مع السلفيين, وفي ظل حكم الإخوان, وبرنامجه التلفزيوني “مع إسلام” وتعرض على أثرها لتهديدات صريحة بالقتل, وحكم عليه أخيراً بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة إزدراء الاديان, مع ان كل ماكان يؤكد عليه إسلام, ان صحيح البخاري وصحيح مسلم لايُعدان من الكتب المقدسة, ويحاول أن يقدم قراءة متسامحة للإسلام على المذاهب الأربعة !. ونتمنى أن يُعيد القضاء المصري النظر بهذا الحكم, عبر الطرق الإجرائية, القانونية المتاحة في مصر, فقد إمتازت مصر بأنّها الأكثر تسامحاً من بيننا, ولايمكن أن تكون اليد الطولى فيها للمتشددين.

يؤكد مانذهب إليه, من “تَلّاشي” لدور النخبة الثقافية, هو ما طرحه الكاتب والروائي المشهور “أحمد سعداوي” في 19/يوليو/2015 في موقعه على فيس بوك بتغريدته المعنونة (وحلتنا), حيث يقول:

ـ بالنسبة لكثير من المثقفين والصحفيين والكتاب والمفكرين والناشطين المدنيين والمعلقين السياسيين العراقيين الذين يعيشون داخل العراق، هم مضطرون، بنسبة أو بأخرى، الى حد أدنى من مجاملة الجماعة الطائفية والعرقية التي ينتمون لها اجتماعياً ويقيمون بين ظهرانيها. وهم يعرفون جيداً أن هذه الـ”حد أدنى” تثلم من الموضوعية ومسؤولية الضمير التي يفترض أن يضطلعوا بها. وهذه في واقع الحال: وحلة مرقّطة.
ـ اضطرارهم أحياناً للكلام العمومي أو الرمزي أو غير المباشر، يذكّرني بالأدوار التي كان يقوم بها المثقف في زمن صدام، فالرمزية والاشارية والغموض تخرج المثقف، عملياً، من مساحة التأثير الأساسية، وهي نوع من الخروج الارادي من حلبة النقاشات الجادة حول القضايا التي تعنى بالبلد ومصير أبنائه. وهذه في واقع الحال: وحلة مقلّمة.
ـ بما أنه لا توجد كتلة واضحة لنخبة تعبّر عن “المنطقة البيضاء” العابرة للقومية والطائفية [لا توجد كتلة مماثلة بدون شريحة اجتماعية تدعمها على الارض]، فإن الصوت المتغلّب يبقى لنقاشات مثقفين ذات طابع طائفي وعرقي. أي أن النقاشات تعبر عن انقسام الجماعات، حيث لكل جماعة دهماؤها وعوامها وخطباؤها وشعراؤها الشعبيون وطبقة السفسطائيين الخاصة بها التي تستخدم كل رفوف الثقافة لتبرير موقف الجماعة ضد الجماعة الأخرى. وهذه في واقع الحال: وحلة مشطّبة” …

إذن, يبدو الأمر جلياً, ولم يعد ضياعنا خفياً. الطامة الكبرى, هي أن نحصر دور المثقف بنقد “الشِلَّة” الثقافية التي ينتمي لها !. فهذا تراجع كارثي خلف الحدود, لأن من صميم عمل المثقف التوغل خلف الإستحكامات الفكرية للجماعات المغلقة التي تعيش في المجتمع الذي يعيش فيه, والتي تُسبب الكوارث الإنسانية, ونقد كل مايسبب الضرر لحياة المجتمع عامة. هذا إذا لم تتعداها للجماعات التي تعيش في مجتمعات أخرى!.

شخصياً, لاتعنيني إشتغالات المثقفين وأنساقهم النقدية وإشتراطاتهم للعمل النقدي, إلى غير ذلك. ولكن كل ما أعرفه ويعرفه المثقفون والناس في هذا البلد, ان هناك قضية عادلة للمجتمع الذي عاشو وتعلمو ودرسو فيه, عليهم أن يتصدو لها. شعبهم يُنهب ويقتل كل يوم. شعبٌ يعيش على آبار متخمة بالنفط تذهب جل حصيلتها للسياسيين الذين إستفردو بخيراته لهم, مع انهم وصلو للسلطة بأصواته. بلدهم يتفكك لأنّهم صمتو خلال السنوات المنصرمة, مرة بحجة ان النظام وليد وبحاجة لوقت, ومرة بحجة الخوف من وصول الآخر للحكم, وكانت النتيجة أننا لم نعد نسلم حتى على أرواحنا. وصل الامر إلى حد ان المعتوهين أصبحو يتولون المراكز الحساسة في الدولة. وصل الامر إلى أننا أصبحنا حين نطالب المسؤول بالخدمات, يذهب ليقارن بيننا وبين بلد آخر يفوقنا من حيث الرفاهية وكأنه يستخف بعقولنا !.

لماذا تقدمت المجتمعات, المتقدمة اليوم؟ لأنها حظيت بمثقفون فعلو ذلك. مثقفون نفذو لروح الشعب وأفهموه الوسيلة التي يُصبح بها مجرد سلعة, تُباع وتُشترى, ليتولى هو بعد ذلك زمام المبادرة. أما ان نبقى نتكلم عن الانساق الفكرية واليوتوبيا والتابو الجمعي, فنحن نسرق هذا الشعب ونكذب عليه كما يفعل السياسي, حين ندعي بأننا مثقفون وكل مانفعله وهو أننا نكتب ونأخذ صور جميلة . ففي غياب نخبة واعية وغيورة, يَسهل لثقافة الآخر “البائسة” أن تؤسس مكانها في التفكير الجمعي للشعب !.

لست أطعن بعقلية أحد, أو إمكانيته الفكرية, بقدر ما أعيب على المثقفين تخاذل شجاعتهم وجرأتهم, فماذا يكون رجل الفكر من دون شجاعتهُ الادبية؟ وهل يبقى مفكراً أم مجرد حاوي للمعلومات ؟!.

لماذا لم تنل مجتمعاتنا من المثقفين مثلما نالو؟ تعمدتُ ألا أُجيب بصراحة على كل هذا السؤال, لأنها توجد في بعض التواريخ التي إحتوتها هذه المقالة !!!.

 

[email protected]