بيات مرعي
“ليس شجاعة مني،بل هو شعور اقرب الى الانهيار كان قد دفعني الى ان امارس الخديعة ضد احساس مؤلم بات يسحلني الى حيثما يريد ، ما أنْ ظهرت زوجتي خارجة من غرفة الفحص الخاصة بجهاز السونار وهي تحمل بيدها الصورة الاشعاعية، لحظتها انتبهت الى شدة احمرار عينيها، وكأنها كانت تبكي طيلة يوم كامل وبدت عاجزة عن السير فاحتويت كتفيها بذراعي اليسرى وجعلتها تستند عليّ حتى تتمكن من السير ، ولمَّا سالتها عن النتيجة ردَّت بصوت واهن يقطعه صوت بكائها ـ يوجود ورم صغير جدا، ولكن لا يعرف ما إذا كان خبيثا ام حميداً وهذا ما سيحدده الطبيب المختص ” .
استعادة الواقع
لا شك في أن(القدرة التخييلية)على استرجاع الواقعي تجرنا في بعض الأحيان إلى الإحساس بهذا الواقعي الذي ولَّى ومضى وكأنه حقيقة نراها الآن ونشعر بها ماثلة في أذهاننا، بينما هي في الحقيقة منطقة موجودة في اللاوعي تبدو وكأنها ذات قدرة على التشكل والتلون والظهور مرة أخرى بمظهر مغاير لما كان يدور في المخيلة وأن محاولة استعادتها مرة أخرى، ومعاودة استرجاع أحداثها التي مرت عليها سنوات طويلة، تجعل التلاحم بين الواقعي والمتخيل، مؤسساً لواقع جديد،هو لا شك واقع إبداعي آني له آليته الخاصة،قد يختلف عن الواقع الواقعي في أنه مشحون برؤية فردية أو جماعية خاضعة لقوانين المكان والزمان في شكلها الذي ينتسب إلى التجربة الروائية في كثير من الأحيان …
في رواية اكتشاف الحب الصادرة عام 2020 عن دار نينوى في دمشق ، هناك حزمة هائلة من الاحداث والمواقف يلملمها من ذاكرة متعبة ومثقلة برفوف الهم ، الكاتب مروان ياسين الدليمي يضعها أمام القارئ في بناء روائي متقن وسرد تفصيلي يجعل من متناولها قرائياً ليس بمقدوره التخلي عن سطر واحد ، ذلك البوح الذي طغى عليه حزن عميق وقلق وترقب يجعل من المتلقي مشدودا كل الشد لمتابعة حدث بعد الأخر ، مستعيناً الكاتب ومعتمداً في سرده للأحداث على الذاكرة، والذاكرة التي حاول مجتهداً من التركيز وإمساك بخيوط حبكته وعدم الانجرار خلف حالة النسيان والخلط التي ممكن ان تتعرض لها ومن المؤكد أن الذاكرة لا تنسى فقط، ولكنها قد تخدع أحياناً فتختلط الأسماء والأزمان والأماكن، منتهجاً سرد لا يخلو من واقعيته إلا أنه راح أيضاً باتجاه سرد خيالي صرف في أغلب الأحيان من خلال إسترجاعات عديدة ومتشعبة للزمان والمكان معاً، في تفحص للذات ومراجعتها ومساءلتها مع التركيز على واقعه الداخلي وواقع شخصياته …
ورغم ان الرواية جاءت وانطوت على الكثير من الوقائع والأحداث الذاتية الصريحة التي لا سبيل لإنكارها لتشكل علاقة من نوع خاص،تكشف عنها حتى عناوين فقرات الرواية بدءاً من عنوانها الرئيسي (اكتشاف الحب) فالحب هنا يشتغل بقوانين أخرى غير التي نعرفها وغير السائدة في العموم انما حالة استثنائية لها من الخصوصية الشيء الكثير حتى لو تشابهت في بعض مفاصلها مع حالات أخرى لكنها تبقى في خانة الإستثناء.
الشخصيات :
تحتل الشخصية مكانة مهمة في بنية الشكل الروائي، فهي من الجانب الموضوعي أداة ووسيلة الروائي للتعبير عن رؤيته، وهي من الوجهة الفنية بمثابة الطاقة الدافعة التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، على اعتبار أنها تشكل المختبر للقيم الإنسانية التي يتم نقلها من الحياة، ومجادلتها أدبياً داخل النص، لدرجة أن بعض المهتمين بالشأن الروائي يميلون إلى القول بأن الرواية شخصية، بمعنى اعتبارها القيمة المهيمنة في الرواية، التي تتكفل بتدبير الأحداث، وتنظيم الأفعال، وإعطاء القصة بعدها الحكائي، بل هي المسؤولة عن نمو الخطاب داخل الراوية باختزاناته وتقاطعاته الزمانية والمكانية . في رواية(اكتشاف الحب) تمر على القارئ العشرات من الشخصيات ولكن تبقى الشخصيات المحورية المتمثلة بالراوي العليم والزوجة وما جاء معهما كان لهما مروراً استوجب حضورهم لتكملة أنساق الرواية وبذلك التركيز على الشخصيتين المحوريتين أعطى الرواية تماسكاً واضحاً في بينيتها وفي مسارات الأحداث وجعل شداً قرائياً لا يمكن الإفلات منه بسهولة …
وبما أن الرواية تهدف إلى تجسيد المعاني الإنسانية فمن الطبيعي أن تكون الشخصية هي محورها، فالرواية ليست حياة حقيقة بل حياة نصّية توازيها وتمثّلها، وبالتالي فإن الواقع شكل المصدر الأكبر للكاتب لالتقاط شخصياته الروائية وببراعة وبحرفية استطاع ان يجعل معادل موضوعي متوازن ومهم بين الحقيقة كشخصية وبين الكتابة عنها بما يتوازى معها ويمثلها … بمعنى تمديد الشخصيات تحت لمسات الروائي المضيئة لإعادة إنتاجها وفق مقتضيات العمل الروائي .
لقد قدم الكاتب شخصياته لتظهر في الرواية بوصفها علامات لها هويات وأبعاد تحددها الأدوار التي تقوم بها كل شخصية، بحيث تكون متناغمة في خطابها السردي الذي سيؤسس النص كاشفا عن تحوِّل الأفراد إلى ذوات أثناء الممارسة التأويلية لمفاهيم مثالية عديدة من الصبر والتفاني وقدرة تحمل والأمل … وظل الكاتب ممسكاً بخيوط لعبة الكتابة من وسط عصاه في تبني هذه الصفات وتناوبها بين الشخصيتين الرئيسيتين فكلما فكت خيوطها يد الشخصية الأولى نجد قد أمسكتها يد الشخصية الأخرى وهذا التجاوب جعل أنفاس الكاتب متجددة حتى آخر سطور الرواية . مع الحفاظ على المفهوم الأدبي والمعيار الجمالي .
الزمان والمكان :
يعد عنصرا الزمان والمكان من أهم تقنيات السرد التي تشكل فضاء الرواية، فعلى نبضات الزمن تسجل الأحداث وقائعها، وفي حيز المكان تتحرك الشخوص، وفي إطار اللغة ببعديها المكاني والزماني يتألف النص السردي.
لعب المكان في رواية(اكتشاف الحب)دوراً وظيفياً واضحاً وشغل حيزا بارزا في الرواية واتخذ معاني ودلالات ورموزاً متنوعة، ارتبطت بمراحل الصراع بين حاضر الشخصيات التي جعلت حالة الاضطرار ليعيشوا محنة التهجير بسبب الأوضاع السياسية الرديئة للبلاد لما تشهده الأحداث وتحديداً مدينة(الموصل)الموطن الأصلي للشخصيات المحورية في صعوده وهبوطه أثناء احتلال ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية للمدينة وانقطاع سبل التواصل مع الداخل .
ويمكن القول إن ثنائية محورية أساسية هي(الأنا والآخر) كما تقوم الرواية على ثنائية الزمن المتمثلة في الحاضر البائس والماضي القريب المنقطع السبل للوصول اليه سوى عبر استذكاره في حضور مشهدي روائي يستحق الوقوف عند تفصيلاته ومقاربته،والتماهي مع دلالاتها والكشف عن جماليات سردها وأبعادها النفسية من خلال عنصرين مهمين من عناصر تشكيل رواية وهما الزمان والمكان …
ففي كثير من الأحيان تجري الاحداث على أرض تلك المدينة التي ما زالت حاضرة في وجدان الشخصيات ، قراها وشوارعها وأحيائها وبيوتها. والتي شكلت في مسار الأحداث أرضاً أخرى لا يستطيع الاقتراب منها إلا عن طريق فتح أبواب الذاكرة واسترجاع لماضي يشكل عمقاً للحنين له..هذا الاسترجاع مثل الخلفية المكانية التي أضفت على الشخصية حضوراً متميزاً كثيفاً وذا معنى من خلال تتابع بعض المقاطع الوصفية لفضاء المكان(مدينة الموصل)وما يشمله من أماكن فرعية وموضحا للواقع الاجتماعي البائس، والظروف الصعبة التي تعيشها المدينة و أبناء شعبها في تلك المرحلة،وهذا ما يدفع إلى بذل المزيد من الجهد والتضحية لتجاوز هذا الواقع. ولا تلبث تلك الصورة البائسة لفضاء المدينة أنْ تتبدّد بفعل الاساليب التي يبتكرها ابناء المدينة لغرض التواصل مع العالم الخارجي للمدينة
هذا التشكل المكاني والزماني الذي رسمه الكاتب بين فضائين المغلق داخل مدينة الموصل والمفتوح المتمثل بكل الأمكنة التي تدور فيها الأحداث داخل مدينة اربيل المدينة التي يسكنها وتهجر اليها منذ سنوات عدة وحتى الأمكنة الأخرى خارج العراق (لبنان)وعلى اختلاف المساحات من حيث تحرك الشخصيات إلا أنه جاء متقن ومدروس حيث أعطى توازن(زمكاني)مهم ورسم خريطة للبناء الديناميكي للأحداث …
لغة السرد
ان اللغة هي أساس الجمال في الإبداع الأدبي، بصفة عامة وهي الأساس المتين الذي تقوم عليه الرواية الحديثة ، وإن لغة الكتابة الأدبية لغة قلقة متحولة زئبقية الدلالة، قادرة على الانزياح وعليه يمكن القول مبدئيا أن لغة الرواية هي تلك اللغة الخاصة،التي يصطنعها الروائي،ويخرجها من المستوى الميكانيكي إلى المستوى الانزياحي، الذي يتيح له أن يسخر لغته لمعان جديدة كثيرة ..توسع دلالتها …
جاءت رواية(اكتشاف الحب) بلغة مقنعة كل الاقناع وحرص الكاتب مروان ياسين على أن يواجه القارئ بلغة أنيقة ، رقيقة النسج موحية تتوفر فيها كل الموصفات الروائية الفنية المطلوبة .
فهي لغة تتمتع بجمالها واللعب بها بمستوى ما يطلق عليه(باللغة الوسطى) المتكيفة مع الشخصيات،توفرت فيها سمات الفن والجمال، والإيحاء والشعرية والصورة …
لقد استطاع الكاتب بتمثيل سردي متنوّع لأحول شخصياته وقدم مداخلات اشتبكت مع الفكرة المحورية للرواية كاشف الغطاء عن العديد من الصراعات السياسية، والمذهبية، والعرقية التي تشهدها منطقة الأحداث بكل سخونتها ، بما في ذلك الهويات، والآمال، والحريات متجاوزاً الخط البياني العام ومعززاً للعديد من الافكار الفرعية والتي تصب بالنتيجة في الفكرة الاساسية للرواية هذا ما جعل مساحة الأحداث أكثر اتساعاً وشمولاً للعديد من القضايا التي تضمنتها الرواية لأنها ولدت في أحضان مجتمع مضطرب بكل جزئياته .. لتشكل الرواية أداة رصد ، يمكن بها استكشاف ليس للحب التقليدي فقط وانما للعالم القريب من تلك الشخصيات المحاصرة بملابسات واقعها المعقد والمركب والحاضر بكل تداعياته والإنسان ومعاناته ، على المستويين الشخصي والعام …
لقد جاءت رواية(اكتشاف الحب)ليس متكأه على بعدها الشخصي فقط وانما قدمت نموذجاً واضحاً للاضطهاد والضيق والعجز والانتظار القاتل والممل بالمقابل البحث عن بصيص أمل في محاولة لدخول من سم الخياط الى العالم الأخر …
بنية سينمائية
مروان ياسين كاتب الرواية ضليع بلغة الصورة واسرار زواياها وله القدرة الفائقة على جعل عينه عدسة كاميرة شديدة الحساسية في التقاط كل لحظة زمنية تمر امامه لقطة بلقطة وهو يعرف جيداً كيف يدير عمله الفني في الاضاءة والديكور اضف الى ذلك شغفه بالسينما والصورة وكيف يحدد مواقع وامكنة والجهات الفاعلة والزوايا الاكثر جمالا والتي تدله عليها مخيلته الثرية بالصور المتحركة ، كل تلك الصفات جاءت من اختصاصه الاكاديمي الدقيق كمخرج سينمائي وتلفزيوني ، ذلك جعله يجني فوائد عديدة في الاتجاه الفعال في كتابة الرواية واخراجها بأدق التفاصيل …
(اكتشاف الحب)ليست مجرد رواية تقرأ, أو نموذج كتابي , إنها مجموع من القيم والمثل العليا التي باتت تعيش عند البعض القليل والنادر بيننا بتوقع او من غيره أمام تحدي الاقدار لرسم خرائط وجودنا فيما هو إنساني فينا وحولنا .
نحن امام نص روائي يحرض على طرح تساؤلات أمام ضرورة استحقاقات وجودك الإنساني،مع الكشف عن جذر الخراب الذي تسببه الحروب وشظاياها وأوجاعها وألأمها وكيفية لملمت الواقع لنعيد بناء الإنسان باكتشاف الحب واسترداد قدرة الحلم …
تساؤلات حول الوجود الانساني في رواية”اكتشاف الحب “
تساؤلات حول الوجود الانساني في رواية”اكتشاف الحب “
مروان ياسين الدليمي
شاعر وكاتب واعلامي ، اصدر ثلاث مجاميع شعرية : رفات القطيعة 1999 ، سماء الخوف السابعة 2010 ، منعطف الوقت 2015، ينشر في عدد من الصحف : القدس العربي ، راي اليوم ، العربي الجديد ، العرب ، الزمان .
مقالات الكاتب