اشتدت حرارة تحركات الساحة السياسية العراقية مع اقتراب موعد الانتخابات في ظل مناخ خاص لم تشهده الديمقراطيات الناشئة حتى في أميركا اللاتينية، فبعد أن بذلت جهود متواصلة لتأسيس معمار طائفي سياسي أوصل المجتمع العراقي إلى مهاوي الحرب الأهلية بإيقاع أكثر إيلاما من الحرب اللبنانية، وتحويل تقسيمات الأميركان التي يقولون إنها بناء على رغبات رموز بعض أطراف المعارضة السابقة من حيث تثبيت المثلث الشيعي السني الكردي بدستور وقوانين، أصبحت دعوات الخروج من هذا المثلث ضربا من الخيال.
وهكذا بدأ الشوط الجديد بعد فشل سياسي متواصل لجميع من شاركوا في هذه العملية البائسة، وفشل حتى الذين ادعو أنهم اختاروا «النضال» من البيت السياسي وليس من خارجه، وقد خضعوا للعبة وتحول الكثير ممن رفعوا الشعار الوطني إلى مزايدين في عالم الطائفية السياسية، حتى إن بعضهم حمل سلته «الطائفية» ليبيعها للجانب الآخر من طرفي اللعبة، لكن الجمهور العراقي اكتشف أن نضال هؤلاء من أجل الدولار وليس للشعب الذي غلب على أمره مرتان مرة حين منح صوته لدورتين، ومرة أخرى حين وقع تحت رحمة الانقسام الطائفي.
معالم اللعبة الجديدة لم تخرج عن ثوابتها السابقة وفي مقدمتها (المال السياسي) مع حصول تغييرات كثيرة على مصادر هذا المال، فلم تعد السعودية مستعدة بعد الإحباط الشديد من دعاة المشروع العروبي في العراق، وفشل دعاة المظلومية السنية من تحقيق توازن النظام السياسي العراقي المطلوب الذي يعيد العراق إلى حضانته العربية. كما أن تركيا وهي ليست أكثر من منبر علاقات عامة لا تقدم المال ولديها مصالحها الخاصة في ميدان لعبة الأقليات العرقي في العراق. والأردن لديه حساسيته الخاصة بعدم السماح بنشاطات عراقية يمكن أن تؤثر على الجو الدبلوماسي المحسوب مع حكومة بغداد. كما أن الكويت ودول الخليج الأخرى كالإمارات مثلاً لها وزنها المهم في الحالة العراقية، تراجعت لكي لا تتهم بالتدخل في الشأن العراق، مع إن التدخل الإيراني أصبح لا يسمح لغيره في المنافسة.
هذا الباب جعل الناشطين في الضفة «العربية السنية» يغامرون بجزء يسير من مخزونات أموالهم التي جمعوها بالطرق السهلة وغالبيتهم أثرى بعد أن كان قبل عشر سنوات بين صفوف الحفاة، والإنفاق عند هؤلاء لن يكون باذخا. أما لدى الطرف «الشيعي» المستحكم بأجهزة الحكومة فقد تضخمت إيرادات الأحزاب والكتل من ريع الفساد المالي والإداري، وبذلك فهم متفوقون ماليا على زملائهم السنة، وهناك شعور مهيمن لدى المشتغلين بالسياسة «أن من يمتلك صندوق المال سيمتلك صندوق الانتخاب» مع أن هذه المعادلة تحتاج إلى مراجعة.
والثابت الثاني والذي تشترك فيه الفعاليات السياسية السنية والشيعية هو التلاعب بعواطف الجمهور، وهذا العامل مر بمرحلتين من حيث القدرة على التأثير الجمعي:
الأولى التي تلت الاحتلال مباشرة في انتخابات 2005 حيث أثرت فتاوى المرجعيات والمراجع المذهبية الشيعية والسنية على قرار الناخب (الشيعي دعا لانتخاب الأحزاب الشيعية) مقابل دعوات لمقاطعة الانتخابات امتثل لها عدد واسع من الجمهور السني تحت شعارات (محاربة الاحتلال وعمليته السياسية) وهكذا تحقق الفوز الكاسح لأحزاب الإسلام الشيعي، أما في المرحلة الثانية من لعبة التأثير النفسي في انتخابات 2010 فقد تغيرت الموازين لصالح المشروع الوطني العراقي الذي لم يتمكن من مواصلة فعالياته بعد تشكيل حكومة المالكي عام 2010.
والعنصر الآخر هو العامل الأميركي والإقليمي حيث تراجعت واشنطن في ظل الرئيس أوباما ولم يعد الملف العراقي شاغلها، وتركت العراقيين لسيناريوهات مراكز البحوث والدبلوماسيين السابقين وخطابات التسقيط السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين.
لقد وقعت جميع أطراف اللعبة تحت خطوط الهزيمة والفشل الشامل، ليس لعامل سياسي مضاد أو معارضة قوية داخل قبة البرلمان، وإنما لافتضاح عناصر اللعبة كلها لدى الجمهور العراقي حتى وإن لم تتوفر أمامه فرصة الخروج الجماعي للشارع بسبب أداة القمع المسلح والدعم العالي من واشنطن وطهران لمرتكزات الحكم الطائفية، ولسريان محركات اللعبة نفسها مع السماح بالتصعيد التعبوي التسقيطي حتى داخل أطراف المكونات نفسها. اللاعبون هم ليسوا سياسيين ولا حتى أنصافهم، هناك مخضرمون معدودون عاشوا طقوس المعارضة ولم يتخلصوا منها، جمعوا حولهم بتكاثر الولاء الكاذب كولاء أفراد الجيش الشعبي المليوني في عهد صدام والذين تبخروا خلال ساعات عند اجتياح الأميركان لبغداد.
وهذه الأرتال من المنافقين والنفعيين سيتبخرون مع أول هزة حتى ولو جربت على مستوى الإعلام، هناك منافقون ومرتزقة كثر توفرت لديهم إمكانيات مالية لدولة غنية. لعبة الفاشلين ماتت على يد أبناء الشعب الغيارى من الشيعة والسنة في احتجاجات الناصرية والبصرة وصمود أبناء مدينة الصدر والأنبار وديالى وصلاح الدين.
قصار القامات لا يصنعون أعمدة عالية، فتحوا فضائيات موسمية واشتروا إعلاميين مرتزقة تمكنوا بفعل التجربة المقيتة مع الاحتلال الأميركي الذي صنع فنونا مبتكرة للإفساد، إضافة إلى ما تبثه قنوات الفتنة الطائفية من سموم. هذه الأدوات التي تشبه «نفخة شعر البنات» بالاصطلاح البغدادي، سرعان ما تذوب وتنهار لأية هبة ريح.
لعبة الشعب بدأت لا على بقايا فشل المشروع الطائفي وإنما لكونها تعتمد عناصر التعبير عن معاناة الناس، مقومات اللاعب الشعبي ليست خيالية كما يروج بين أوساط المشاريع السياسية الطائفية. إنها التراكم الهائل من إحباط عمره عشر سنوات من القتل والتدمير والاعتقالات، ومن التهجير الطائفي والحرمان الخدمي الاجتماعي والثقافي والصحي، ومن سيادة التجهيل وعدم احترام العقل، وتغييب الهوية الوطنية ونفوذ مافيات الفساد. وهذا الإحباط لم يقتصر على طائفة دون أخرى، بل شمل الجميع.
ولهذا فالمشروع الوطني العابر للطائفية يعبر عن الجميع، لكنه تعبير لا يصح أن يبقى عند حدود الإعلام، فهذا ما يفرح اللاعبين الذي يحضرون حالهم للجولة الجديدة عبر تنشيط حملات العلاقات بين أوساط الإعلاميين العراقيين خصوصاً أولئك الذين حافظوا على قدر من المبدئية في التعبير. إن دخول لاعبين جدد للخط أحمر غير مسموح به ولهذا تجري حملات تشويه واستهزاء «بعدم قدرة اللاعبين الجدد من أصحاب المشروع الوطني على وضع أقدامهم في ساحة الملعب». هناك بين المواطنين العراقيين من يقول ويتساءل:
نعم هناك إحباط ويأس وعدم ثقة جماعية من السياسيين وأنصافهم الذين قادوا مسلسل الفساد والنهب والتقسيم الطائفي ولكن ما هي عناصر الثقة التي يستطيع من خلالها دعاة هذا المشروع «اللاطائفي إقناع الجمهور العراقي الباحث عن رموز البطولة الحقيقية؟ ومن يضمن ألا يتحول الدعاة الجدد إلى مرافئ الطائفية المريبة؟ وإذا كان دعاة المشروع الوطني الجدد ممن عرفوا بنزاهتهم وسمعتهم، ولا يفكرون بمد أيديهم إلى سفارة أو حزب أو جهة خارجية فأين سيكونون في معركة المال الرخيص؟
مثل هذه التساؤلات منطقية ولابدّ أن توجه إلى الوطنيين العراقيين نظيفي اليد من أصحاب الأموال، لعلهم يقدمون خدمة لوطنهم.