هناك من يُحَيل التطبيع كليا، الى السباق الانتخابي، الامريكي، والصهيوني؛ صحيح أن التطبيع له جانب يتعلق باستثمار اشهاره، من ترامب ونتن ياهو، لأغراض انتخابية كناتج عرضي، وقصدي. اما في الجوهر فهو جزء من مؤامرة كونية رسمت استراتيجيتها وقادتها وتقودها الولايات المتحدة، لتصفية القضية الفلسطينية، اطرافها؛ أمريكا والكيان الصهيوني، وانظمة الحكم العربي، وهناك اطراف دولية اخرى؛ ربما لعبوا دورا ما، فيها، الاتحاد الاوربي مثلا( المملكة المتحدة، توني بلير في الحكومة وخارجها حين كان يشرف على الرباعية الدولية..). في سياق ذي صلة؛ ترامب اعترف بالقدس، عاصمة للكيان الصهيوني. وهو في هذا قد نفذ ما اقره مجلس النواب الامريكي ومجلس الشيوخ قبل عدة سنوات، اللذان تركا امر تنفيذه للرئيس الامريكي، وتقيمه للظرف العربي، والاقليمي، والدولي المناسب. الامارات والبحرين، ما كانا ليقدما على التطبيع لولا الضوء الاخضر السعودي، وهذا الضوء هو الاخر لا يمكن فصله عن الموجه الامريكي الضاغط، والذي يترجم عمليا وعلى ارض الواقع؛ الحسابات الاستراتيجية الامريكية، سابقة الإشارة، في المنطقة العربية، وفي العالم ايضا؛ ولا يمكن فصله عن مجريات ومداخيل اعادة تشكيل شكل النظام العالمي.. اضافة الى انه مفصل حيوي وجدي وفعال لإنجاح صفقة القرن. ان التطبيع سيشمل لاحقا انظمة حكم عربية اخرى، وعلى مراحل؛ في المرحلة التالية والقريبة؛ المغرب وسلطنة عمان وربما السعودية، والسودان في اخر هذه المرحلة، بحسب الصحف العبرية، ثم تليها مراحل اخرى. ان هذا التطبيع؛ شكل البداية للحل.. وسيشكل لاحقا، في المستقبل القريب، منصة مكتملة الارضية والاركان، مع مداخيل الحل، ومخارجه؛ لإعادة تشكيل انظمة الحكم في المنطقة العربية حصريا، بعد ان تم فيها، انضاج الظروف الواقعية والموضوعية بما يتلاءم مع الاستراتيجية الامريكية الجديدة والقديمة اي بدايتها كانت قبل عقدين من الان. الولايات المتحدة الامريكية دولة عظمى وستقبى دولة عظمى، قوة وقدرة أمريكا، ليسا موضوع سؤال ونقاش. لكنها وفي خلال العقد الحالي واجهت تحدي غير مسبوق، تنازعها على زعامة العالم؛ الصين والاتحاد الروسي، والاكثر تحديا هي الصين؛ في بحر الصين الجنوبي والشرقي وفي شرق اسيا، وفي المحيط الهندي والهاديء، وفي الحزام والطريق. وفي اوراسيا، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغير هذا الكثير من دول المعمورة، مما يدخل في خانة الصراع الامريكي الصيني بعيد الأمد. لذا؛ فان الولايات المتحدة تريد فعلا الانسحاب من المنطقة العربية، وهو ليس انسحاب بمعنى الانسحاب الكامل اي تنفض يديها عن المنطقة، وتتركها الى النفوذ الصيني والروسي، وهذا امر لا يمكن ان يحدث، ولن يحدث ابدا، لأنها بهذه السياسة؛ تكون قد تخلت عن المنطقة العربية، الغنية بالطاقة، النفط والغاز، والثروات المعدنية الاخرى بالإضافة الى الموقع الجغرافي الاستراتيجي، لصالح، الاتحاد الروسي والصين، اي انهما سيشغلان ما تتركه من فراغ، وهي بهذا ان اقدمت عليه( لا ولم ولن تقدم عليه)؛ تضيف، مناطق نفوذ لهما، تساهم في تقوية قدرتهما على منافستها في بقية اصقاع الكرة الارضية. هذا من جانب أما من الجانب الثاني؛ فان بقائها في المنطقة العربية، والانشغال في حروبها سواء الاهلية التي هي من اشعلتها بطريقة او بأخرى ولأهداف استراتيجية سالفة التنويه لها في بداية المقال؛ يُشَغلَها عن مواجهة الاتحاد الروسي والصين، والاخيرة بدرجة اكبر واكبر جدا من الاتحاد الروسي حاليا وكليا، مستقبلا، في مناطق الصراع بينهما، في الجهات الاربع للكرة الارضية. كما ان امن الكيان الصهيوني؛ يفرض عليها، فرضا، التواجد الفعال في المنطقة العربية في الوقت الحاضر؛ كي تشارك في ايجاد الحلول للأوضاع المنغلقة على المعالجة الناجعة، (والتي هي بالأساس، من البداية الى النهاية، صناعة امريكية، وصهيونية، وغربية.. بأذرع عربية.)، مشاركة فعالة في ايجاد الحلول للأوضاع المضطربة، والفوضى، والاقتتال الاهلي، في الدول العربية الفاشلة بأنظمة حكوماتها الفاسدة مع تعدد موجهاتها السياسية والدينية، ومراجعها، وولاءاتها.. هناك ثلاث مسارات لبلوغ الاهداف الامريكية الاستراتيجية؛ مسار صفقة القرن، ومسار التطبيع، ومسار اعادة تشكيل شكل انظمة الحكم لدول المنطقة العربية المشار لها في اعلى هذه السطور. وهي مسارات متزامنة ومتوازية. نلاحظ ان الدول انفة الذكر، في الاشهر الاخيرة، وبالذات في هذا الشهر، تجري فيها عمليات حثيثة ومتسارعة في البحث الدؤوب عن حلول ومخارج لأوضاعها؛ بما يتخادم مع الاستراتيجية الامريكية الصهيونية؛ يتشارك في هذا البحث، دول عربية بعينها، وهي ذاتها الدول التي طبعت او التي تقف في طابور التطبيع بانتظار الظرف المناسب؛ لتقديم اوراق براءتها او تقديم صكها المالي؛ لمحاصرة اخيهم يوسف الفلسطيني من جانب، ومن الجانب الثاني؛ التلويح بصك الدولار، لجذب العين، واغراء النفوس؛ حتى يُسَلم بالأمر الواقع الذي هو فيه، ويتخلى عن دوره الفعال في احقاق الحق، وانتزاعه من عيون مغتصبيه، في لعبة قديمة، اثبت تاريخ صراع الفلسطيني مع سارق ارضه وحياته ووجوده، بصموده وصلابته، وكرامته، وقوة ذات نفسه، وحبه لذرات تراب وطنه، فشلها الذريع؛ تجديدها ينم وفي ابرز ما ينم عنها؛ هو انها لعبة غبية، ومجددوها، اشد غباء من لعبتهم هذه. ان دول التطبيع العربية؛ تؤدي دورها الوظيفي لهذا الغرض او الهدف، الامارات والمملكة العربية السعودية ومصر، وحتى الاتحاد الاوربي، ولو بدرجة اقل، وبطريقة خفية تختلف عن المعلن الذي تعكسه تصريحات مسؤولو الاتحاد الاوربي. هذه الحلول تنحصر غائيا في اعادة رسم شكل الانظمة فيها، بمعنى اخر؛ بلقنة تلك الدول( نسبة الى يوغسلافيا السابقة..)، العراق، سوريا، مثلا، او أعادة تقسيمها الى دولتين، اليمن، مثلا؛ كي تنتج من هذه الحلول دول هشة وضعيفة، وفاقدة للسيادة.. في هذه الدورة، وخلال ما يستغرقه دورانها من الزمن ؛ سيعمل الكيان الصهيوني او هو قد عمل فعلا كبداية؛ على ان يكون له وجود بشري، منتج للثقافة والسياسة، وحتى في الادب. اضافة الى العمل على ان يكون له وجود في تيارات واحزاب، وتجمعات ثقافية، اضافة الى تبني، والتزام، ساسة بعينهم، وجوديا، وسياسيا، واشهاريا؛ لمواقفهم ورؤيتهم السياسية، والاقتصادية، وما يتصل بهما او كل ما له علاقة بهما اي الاقتصاد، والسياسة.. بطريقة خفية، وبعيدة عن المشهد السياسي، وفي قلب المشهد في آن واحد، والعمل على ان ترتبط مصالح هؤلاء، ووجودهم بمصالح الكيان الصهيوني الذي يمثل رأس الحربة، لأذرع الامبريالية الامريكية بصورتها ومساراتها الجديدة التي انتجتها تكنولوجيا المعرفة او التي ستستفيد بأقصى ما تستطيع من فائدة، توفرها هذه التكنولوجيا. بمعنى اكثر تمثلا للواقع المعيش او الذي سوف يكون واقعا معاشا؛ لا سامح الله ان نجحت هذه الاستراتيجية، في المقبل من الزمن الذي ليس هو ببعيد من الآن؛ هو تخليق طبقة كمبرادورية في الدول سابقة الاشارة لها؛ ترتبط وجوديا ومصلحيا مع الكيان الصهيوني الممثل الشرعي والوجودي والتسويقي للبضائع والسلع، وما له صله بهما، انتاجا وترويجا، وحضورا سياسيا، وتكنولوجيا ومعرفيا، واستخباراتيا، وثقافيا، في المنطقة العربية، للإمبريالية الامريكية الحداثوية في الاقتصاد، والتجارة، والمال، والاعمال، وتكنولوجيا المعرفة، وفي شكل الديمقراطية. على الجانب الثاني من هذا المخطط الكوني؛ تجري عمليات متسارعة لتهيئة الظروف المناسبة لإنجاح صفقة القرن؛ بأعداد طاولة حوار؛ يشارك فيها اصحاب القضية، مع ممثلين أممين، وممثلو القوى الدولية والاقليمية، الفاعلة في ساحة الحرب والنزاع، ومشهدهما السياسي؛ لإعادة تشكيل شكل الانظمة لدول المنطقة العربية، سابقة الاشارة لها. بالتوازي والتزامن، يجري على قدم وساق، وراء الابواب المقفلة؛ العمل الاجرائي الخفي لاستمرار الانقسام الفلسطيني مع عمليات استخباراتية، وللإمارات الدور المركزي فيها؛ لتخليق او ايجاد كتلة سياسية، تقبل التعامل مع مخارج صفقة القرن. وفي تزامن وترابط عضوي؛ ستتواصل عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني. يصاحب جميع هذه العمليات؛ حملة اعلامية واسعة النطاق، في توجيه حركتها، وفي اتجاه حركتها، في نسق واحد يتوزع على عدة مسارات؛ اولا ابراز عبثية المقاومة وانها لا فائدة منها فهي وخلال ما يزيد على نصف قرن لم تنتج اي شيء ذي فائدة للقضية الفلسطينية، بل ان الفلسطينيين خسروا الكثير بسبب هذا الرفض للحلول المطروحة؛ لذا عليهم القبول بالواقع المعيش والتعامل معه بجدية كي يربحوا ما سوف يربحوا من المال والمشاريع على أطباق ملونة بألوان زاهية، وجذابة، تغري النفوس قبل العيون، ومحملة بأنواع الاطعمة الشهية التي تحمل السم في مكوناتها، بدل الخسارة الكلية، في لعبة خبيثة جدا، يصوغ الشيطان تفاصيلها. يصاحبها كما هو حاصل الان، تغطية اعلامية واسعة ومبرمجة بمنهج علمي مؤثر، يهز القناعات ويخلل ارضية الصمود والمواجهة.( نحن هنا نتحدث عن المشروع الامريكي الصهيوني وعن مشغليه العرب وعن عرابوه الامريكان والصهاينة، وقناعتهم وتصميمهم على انجاحه وليس عن قناعة كاتب هذه السطور، تلك مسألة ثانية وموضوع اخر..) في الجانب العربي والذي هو بالأساس او في الحقيقة والواقع الموضوعي؛ يرتبط مع بعضه بعضا، وفلسطين جزءا منه، ارتباطا مصيريا. أذ، لا يمكن فصل مصير ومستقبل دول المنطقة العربية عن مصير القضية الفلسطينية؛ وهذا هو ما يفسر لنا؛ توازي وتزامن المسارات الثلاث؛ اعادة تشكل شكل النظم السياسية في المنطقة العربية مع مسار صفقة القرن، ومع مسار التطبيع. الولايات المتحدة حين يقول ترمب في بثه لخطاب التطبيع البحراني والاماراتي؛ ان شعوب المنطقة قد ملت من الحرب ومن القتال، وتريد ان تعيش بسلام، يفتح لها حياة افضل في التنمية والتطور. ان ترمب في هذا، يعني وفي جوهر ما يعنيه؛ هو ان الولايات المتحدة تريد بهذا التطبيع؛ ان تتخلص من ثقل رزحت تحت ضغطه، ومهامه، والتزاماته، الا وهو المحافظة على امن الكيان الصهيوني؛ كي تتفرغ لصراعها المقبل مع التنين الصيني في عالم يعاد حثيثا وبصورة متسارعة؛ تشكيل شكل النظام الذي سيتحكم فيه. مع هذا، فأن امريكا لن تنسحب بالكامل من المنطقة العربية حتى وان لا سامح الله نجح مخططها هذا. وهو لن ولن ينجح ابدا.. انظمة الحكم العربي، خائفة من رد فعل شعوبها، البحرين، مثلا، والسعودية التي، للسبب ذاته، الذي ينحصر بالخوف من رد فعل المؤسسة الدينية اللارسمية؛ تتأرجح بين الاقدام على التطبيع، والتأخر قليلا اوكثيرا؛ في الدخول الى رهط المطبعين. مع انها مركز الثقل المحوري، الدافع لعملية التطبيع. الولايات المتحدة، لابد لها وفي مختلف الظروف والاحوال التي ينتجها هذا (النجاح!؟) ستحتفظ بوجود فعال عسكري وسياسي ودبلوماسي واستخباراتي وثقافي في مواقع محددة ومعينة جغرافيا، وبأعداد قليلة جدا، لا تشكل ضغطا ماليا على نفقاتها باستخدام تكنولوجيا المعرفة، وبالاستعانة او باستخدام الكادر البشري من ابناء دول المنطقة العربية واحزابها ومنتدياتها الثقافية وساستها، ممن قبلوا ان يلعبوا هذا (الدور الوظيفي!؟) وهم بالتأكيد قليلو العدد وضعيفو العدة، كما اسلفنا القول فيه، في الذي سبق من هذه السطور؛ هؤلاء المرتبطون وجوديا ومصلحيا وسياسيا واقتصاديا مع الوجود او التواجد الامريكي والصهيوني في دولهم المطبعة.. في السياق ان هذه الاستراتيجية، ستواجه عقد يصعب تفكيكها ان لم نقل؛ من المستحيل تفكيكها: – تصدي قوى اقليمية كبرى لها.. الرفض الشعبي العربي لها..- الرفض الفلسطيني لها..- المقاومة الفلسطينية.. تغييرات في موقف القوى الدولية الكبرى؛ ان جوبهت بالمقاومة بجميع اشكالها وانواعها، سواء من المقاومة الفلسطينية، او بتعالي اصوات الشعوب العربية الرافضة لها، او بالانتفاضة على الحكم العربي المطبع، البحرين مثلا. في الخاتمة؛ لم يبق الا ان نقول قولا ذي صلة بنتائج هذا المخاض العسير: ان حصاد الحقل يختلف عن حصاد البيدر..