20 مايو، 2024 4:11 ص
Search
Close this search box.

ترويض العقل

Facebook
Twitter
LinkedIn

دور الاعلان في تشكيل خيارات المواطن الامريكي
الناس في امريكا، احرار، متى قيست اوضاعهم بأوضاع غيرهم ممن ترزخ على قلوبهم النظم الشمولية. فهم احرار في ان ينتخبوا هذا ولا ينتخبوا ذاك، فهم احرار في ان يشتروا هذه السلعة ويعرضوا عن شراء تلك، واحرار في ان ينفقوا كل دخلهم ومدخراتهم الكبيرة فعلاً متى قيست بمدخرات غيرهم. واحرار في ان يستدينوا لشراء المزيد من السلع والخدمات او يقتصدوا ويدخروا ويستثمروا، واحرار ايضا في ان يموتوا جوعاً او يموتوا بالمخدرات او امراض البيئة الصناعية الملوثة. لكنهم في النهاية احرار.

لكن تلك الحرية مدخولة بفيروسات اجتماعية، ان صح التعبير، تفرزها بنية المجتمع الصناعي الاستهلاكي التنافسي الذي يتمتعون فيه بالحرية. تفعل تلك الفيروسات الاجتماعية فعلها في تكييف وتشكيل وتشويه الانسان ككائن اجتماعي، وقد لا تقتله لكنها تغيره الى شيء لا يكف الكتّاب الامريكان عن النواح عليه وهم ينعون (الحلم الامريكي).ذلك الشيء الذي توجده الفيروسات الاجتماعية ومن اشدها ضراوة واذى فيروس (التجارية) التي تحول الحياة الى سوق بائعين والبشر الى مستهلكين، وهو (الناخب الامريكي).فكلما تضخ الفيروسات سمومها التي تؤدي الى التشوه والموت في الجسم الحي، يضخ فيروس التجارية سمومه من خلال صناعة الاعلان. والناتج النهائي لتلك الصناعة الرائجة القادرة على كل شيء عن طريق استخدامها لآليات علم النفس وأساليب الاقناع الخفي والضرب تحت الحزام، مخلوق استهلاكي تحركه المثيرات المدسوسة في الرسائل الاعلامية وتتحكم فيه الرغبات والمخاوف التي تبثها تلك الرسالة في نفسه من تحت عتبة الشعور، عن طريق الالحاد والتركيز في بث الرسالة بمختلف الوسائل.

ذلك المخلوق الاستهلاكي دربه مروضوه على ان ينجذب الى غلاف السلعة وطريقة عرضها باقوى مما ينجذب الى مضمونها ومحتواها ومدى نفعها له واحتياجه الحقيقي اليها، وعلموه ان ينصرف اهتمامه الى مظهرها الخارجي بأكثر مما ينصرف الى الطريقة التي تعمل بها. وما على المرء الا ان يتمعن قليلاً في الطريقة التي تباع بها سلع باهضة الاسعار، ليقف على حقيقة ما تقول.

فالفرد الامريكي، كمخلوق استهلاكي، يغير سيارته باستمرار، وسائر اجهزته المنزلية بصرف النظر عن مدى احتياجه الحقيقي الى تغييرها. اي انه لا يغيرها لانها تعطلت، بل لان سيارته جديدة ذات تصميم اكثر جاذبية، يجتذبه الى شرائها والتخلص من سيارته التي قد لا يكون انتهى من سداد كل اقساطها بعد. فليس الشراء هنا نشاطاً سوياً لاشباع حاجة حقيقية بالمفهوم الذي يتحدث عنه علماء الاقتصاد، بل لاشباع حاجة مختلفة عن طريق الترويض الاعلاني هي حيازة الجديد البراق دائماً بصرف النظر عن اي اعتبار آخر.

وحتى البشر انفسهم يباعون لبعضهم البعض على اساس تغليفهم لا محتواهم. ففي دنيا العلاقات الانسانية التي تختلقها الاعلانات، تنبني العلاقات بين الناس على اساس علاقتهم بالاشياء. فالمرأة الحسناء المشتهاة هي تلك التي ترتدي هذا الثوب من صنع محل ازياء (كذا) او ترتدي ملابسها الداخلية الهفهافة من صنع دار ازياء (كذا) وتستخدم عطر واحمر شفاه واحمر خدود ومكياج ورموش صناعية ومشدات من صنع (كذا). والرجل الوسيم الجدير بأن تحبه المرأة هو الذي يقود سيارة نوع (كذا) لانها علامة الفحولة، او يدخن سكائر (كذا) لانها دليل الفتوة والرجولة.

فالرجل الامريكي لا يحب المرأة او ينجذب اليها لانها (س) ولانها وسيمة كما خلقها الله، وذات شخصية جذابة، بل لانها قطعة لحم مغلفة وملونة ومعطرة بماركات تجارية معينة. والمرأة الامريكية لا تنظر الى الرجل تلك النظرة المتأملة التي تسبق الاهتمام بشخصه الكريم لانه مستر (كذا) بل لان تغليفه الخارجي من ثياب ومقتنيات تجعله جذاباً وتضفي عليه مظهر النجاح والرجولة.

وهذا وضع لا انساني وغير مستغرب في عالم باتت الحياة نفسها فيه ضرباً من الاختلاق السينمائي والتلفزيوني بدرجة جعلت الوهم الذي تسقطه على العالم اكثر واقعية من الواقع الحقيقي المعاش. ومثل هذا التحويل للحياة الى وهم مختلق سينمائياً وتلفزيونياً مطلب جوهري من متطلبات عملية الهندسة الاجتماعية الرامية الى ابعاد الناس بشكل مستمر ولحوح عن اي وعي حقيقي يمكن ان يكون مدمراً بواقعهم الذي يجب ان يغمروا فيه ليكونوا مواطنين صالحين.ومستهلكين حقيقيين. فالحياة، والعلاقات الانسانية، والنوازع البشرية، تحول باستمرار وألحاح وبراعة الى لا واقع يعيشه الناس شبه مخدرين ويصدقون انه واقعهم الحقيقي، بل ويقتنعون بأنه ينبغي ان يكون واقعهم. والحكاية كلها قائمة على ما يسميه الكتّاب الامريكان (الحلم الامريكي) الا تكون خاسراً، ان تكون ناجحاً، وثرياً وقوياً، وأخذاً بناصية الحياة بكلتا اليدين. ذلك هو ان تكون امريكياً، لكن كم من الناس، من ملايين الوحدات الرقمية المغمورة التي تكاد تكون بغير وجوه التي تزاحم بعضها بعضاً وتسرق وتقتل وتغش بعضها بعضاً وتتسابق في سباق الجرذان متسلقة فوق جثث بعضها البعض، يمكن ان تصل الى تحقيق ذلك الحلم ليكون الرجل او المرأة منها امريكياً او امريكية بحق؟ بضعة آلاف؟ مليون؟ وماذا عن الملايين الباقية؟ احصاءات الجريمة وادمان الخمر والمخدرات تعطينا مؤشراً على ذلك.

ولقد كان من المتوقع ان تكون تلك الاحصاءات أشد فظاعة لولا المؤسسة الامريكية مؤسسة فطنة وذكية ولديها صناعة الاعلان واجهزة الاعلام وصناعة تحويل الحياة الى وهم سينمائي. وأي متابع او مراقب لوسائل الاعلام الامريكية لا بد قد استوقفته برامج المسابقات التي لا تحصى في التلفزيون الامريكي، وهي مسابقات لا تتطلب ذكاء اعلى من ذكاء قرد مدرب، او معارف تزيد كثيراً عن معارف طفل في مدرسة ابتدائية، ومع ذلك فان المتسابقين فيها يربحون عشرات واحياناً مئات الالاف من الدولارات بمرأى من عشرات الملايين من مواطنيهم، في طلعة كل نهار، وتلك رسالة صريحة الى كل امريكي تقول له – انظر، امريكا بلد الفرصة المتاحة، انت ايضاً، مهما كانت ظروفك

الراهنة قاسية، يمكن ان تصبح في غمضة عين من الاثرياء بقليل من الشطارة وقليل من الحظ. والدليل على ان الرسالة تلقى اذاناً صاغية، ان الامريكان لا يتوقفون لحظة عن الجري باستماتة في سباق الجرذان.

بمعنى ما نريد ان نقوله، ان المجتمع الامريكي مجتمع فريد في بنيته وتكوينه وفلسفته وطريقة حياته. ورغم كل بلاياه يبدو واضحاً انه نمط مسبق لما سوف تكون عليه المجتمعات في عالم الغد. ولذلك المجتمع الفريد طريقته الفريدة في بيع كل شيء حتى الساسة والحكام والرؤوساء.

تمتلئ شاشات المحطات التلفزيونية الامريكية بالاعلانات ويسمونها في امريكا Commercials، اي الاعلانات التجارية، ولا سيما فترة الترشيحات الانتخابية للرئاسة الامريكية، تتناول شخص المرشح، عجلة الاعلان عن الرئيس القادم، ولا يمنع هذه الاعلانات من ضرب مواطنيها الامريكان تحت الحزام باعلاناتها التجارية/ السياسية لدفعهم الى ممارسة حقهم الانتخابي بالتصويت لهذا المرشح او ذاك.

هناك نوعين من الاعلان التجاري، اعلان البيع بالطريقة الخشنة، اي الاعلان العدواني الذي يرغمك على شراء مستحضرات منع رائحة العرق مثلا، بجعلك تشعر بأن رائحة جسدك قد لا تكون مستحبة، واعلان البيع بالطريقة الناعمة، اي الاعلان المستكن الذي يأتيك من حيث لا تتوقع وبنعومة يدفعك الى شراء المستحضر.

ولا وجود في تلك الاعلانات لقضايا سياسية او مصائب عسكرية كالاسلحة النووية، بل ولا كثير ذكر للرئيس الجديد ذاته الا في ختام الاعلان يظهر المرشح الرئاسي باسماً، شامخاً، ابوياً، متلفعاً، بالعلم الامريكي وصوت جهوري، هو صوت المعلق، يخاطب مواطنيه الامريكان من خلفية الاعلان معلناً ان الصبح طلع على امريكا من جديد، والبقية متروكة طبعاً للذكاء الثاقب الذي يتمتع به من يشاهد الاعلان، وهو ان ذلك الصبح طلع ثانية على امريكا في عصر هذا المرشح الرئاسي.

وبطبيعة الحال، لا يمكن ان يترك مصير الحملة الانتخابية لهذا النوع من التفاؤل المستميت وحده. لانه ستظل هناك دائماً تلك الاشياء المزعجة التي يسمونها The Issues، اي القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمشاكل العسكرية.

ولذلك، فأن ترسانة اعلانات بيع الرئيس للناخبين الامريكان تشمل بجانب اعلانات تغليف الرئيس وترويجه عن طريق اعطاء الوهم بأن صبحه الوضاح قد طلع على امريكا، ذخيرة اعلانية احتياطية لم تستخدم حتى لحظتها، ولكنها يمكن ان تعطي شاشات التلفزيون وتفرش في سائر اجهزة الاعلام في لحظة، متى اثيرت قضايا معينة في غمار حملة انتخابات الرئاسة.

انتقلت منابع السلطة في اميركا بعد ان كانت موزعة توزيعاً لم يكن بالوسع وصفه بالعدل او التكافؤ، ولكن بالمعقولية، بين مصالح الاغلبية الساحقة والمصالح الاقوى للاقلية، الى ايدي القلة صاحبة اليد العليا والمصلحة العليا

لانها الاثرى والاقوى والاكثر تحقيقاً لذلك الشيء الذي يدعي بالحلم الامريكي. والاكثر اقتراباً بذلك من الوضع الذي قد يجعلها تعطي الولايات المتحدة نشيداً قومياً جديداً لا يستغرب ان يؤكد ان اميركا فوق الجميع.

وكمترتب من مترتبات ذلك الانتقال لمنابع السلطة السياسية، ولكون المرشح لأي منصب عام او مقعد بمجلس تشريعي او مقعد المكتب البيضاوي بالبيت الابيض ذاته يتعين ان يغلف ويروج ويباع لجمهور الناخبين عن طريق الاعلان التجاري/ السياسي، وضرورة تأمين ذلك المرشح لتمويل يمكنه من ان يغلف ويباع بنجاح لا يقل عن عدة مئات من آلاف الدولارات اذا ما اتجه طموحه الى منصب الرئيس.

فمن اين يأتي ذلك التمويل الذي يتيح لشركات الاعلان وكبريات دور الصحف ومحطات التلفزة المحلية والعالمية… وهي تعد بالعشرات في اميركا، تغليفه وبيعه بنجاح؟ من الصفوة الاقتصادية الثرية من الشركات الكبرى.

بطبيعة الحال، هناك مصادر التمويل المتاحة من المنظمات السياسية للاقليات العرقية ومن منظمات العمال احياناً ومن المصالح الاقتصادية التي تخشى من التعاظم المتواصل للشركات الاحتكارية الكبرى.

الا ان التمويل، سواء كان مصدره اليمين او الوسط الليبرالي، يأتي من منظمات وتكتلات ذات مصالح يتعين على الرئيس او عضو الكونغرس او عضو مجلس النواب او حاكم الكونغرس او عضو مجلس النواب او حاكم الولاية المنتخب بفضل تمويلها لعملية بيعه لجمهور الناخبين ان يحرص عليها ويحققها من موقعه في ساحة صنع القرار.

وفي تلك الساحة الشبيهة بالسوق، تمارس تلك الاشياء السامة التي يدعونها باللوبي او جماعات الضغط، سطوتها وتحقق مآربها على حساب اي وكل شيء حتى مصالح امريكا ذاتها ومصالح الناخبين الذين استخدمت اصواتهم في تمكين الرئيس او عضو الكونغرس من الوصول الى مقعده.

ومحصلة ذلك كله في نهاية الامر، شمولية جديدة عجيبة تعمل بكفاءة ونجاح وصفاقة لا توصف من خلال آليات العملية الديمقراطية فتتحكم في وصول الساسة الى المجالس التشريعية ومختلف المناصب العامة حتى منصب الرئيس، وتتحكم في بقائهم بغير فضائح ومشاكل في مناصبهم، كما تتحكم في امكانية اعادة انتخابهم لتلك المناصب، وهي شمولية عجيبة فريدة في نوعها لانها تلوي عنق الديمقراطية مستخدمة سلاح الثراء والسطوة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية ومستخدمة ملكيتها لدور الصحف ومحطات التلفزيون والاذاعة ومختلف وسائل النشر والاعلام في تحويل حق الانتخاب، اي حق المواطنين جميعاً في الاتيان الى السلطة ومراكز صنع القرار بمن يريدون وابعاد من لا يريدونه، الى سحرية مفرغة من اي محتوى ديمقراطي وأي مضمون حقيقي، وعن طريق ذلك الافساد المفضوح السافر تمارس عملها كشمولية حاكمة من وراء واجهة ديمقراطية انتخابية برلمانية حرة في مجتمعات ما زالت مصرة على انها مفتوحة.

وجعل الناس سعداء، مفتاح رئيس من مفاتيح لعبة البيع. فالمستهلك الامريكي روض على تدليل نفسه. كل الاعلانات تحثه على ذلك، وبالحاح شديد تحوله الى شخصية نرجسية مشغوفة بذاتها منهومة على استهلاك المزيد ثم

المزيد من المستحضرات والمنتجات التي تجعلها اكثر حسناً وأشد فتنة وأطيب رائحة. ومن خلال تلك النرجسية، يشجع المستهلك الامريكي عندما يتعلق الأمر بممارسته لحقه الانتخابي، على تفحص شخص الامريكي الناضج الوسيم الرشيق الذي يباع له، ومن خلال تفحصه لشخصية المرشح، او من خلال ايهام الناخبة لنفسها بأن المرشح الوسيم كنجم الفيلم الفاتن، حبيبها هي وذكرها هي، تتم الصفقة، ويشتري الناخب او الناخبة السلعة المبيعة- ويتسنم المرشح بفصل شطارة البائعين وسذاجة المشترين – ذرى السلطة.

* المراجع

1- متابعة شخصية للاعلانات المعروضة على شبكة CNN.

2- المجلات الامريكية: U.S. news

Time [email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب