18 ديسمبر، 2024 9:58 م

ترمب والقدس وعرب أمريكا

ترمب والقدس وعرب أمريكا

إن الحقيقة التي تغيب عن شريحة واسعة من جماهيرالدول العربية أن الحزبين الأمريكيين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، هما حزبٌ أمريكي واحد يقوده نخبة من رجال دين ومحامين وسياسيين ومصرفيين ومذيعين وكتاب وصحفيين ومخرجين وممثلين وممولين نصفُهم يهود أمريكيون، والنصف الباقي أمريكيون متهوّدون.
ولتفسير هذا اللغز أذكركم بالمواقف المعلنة والمستترة التي يلتزم بها الحزب الرابح والخاسر، معا، في جميع الانتخابات الرئاسية المتعاقبة من سنين، حين يتعلق الأمر بالعرب وفلسطين وأمن إسرائيل، ولا تختلف مواقفهما ولا يتعاكسان إلا في الأمور الأخرى الداخلية المحلية التي لا تعكر دماء أولياء الأمور، كالصحة والضرائب والميزانية، لكسب أكبر عدد ممكن من الناخبين العاديين الذين لا يفكرون إلا بجيوبهم. أما مواقف الحكومة الجمهورية أو الديمقراطية من شؤون العالم الخارجي، وعلاقاتها بدول العالم الأخرى، فلا يشغلون بها أنفسهم، ولا يضيعون وقتهم فيها.
وما يجب على أهلنا عرب الدول العربية معرفتُه هو أن الذي يملك القدرة على فرض نفسه على الحكومات الأمريكية، وعلى إجبارها على تأييده، ظالما ومظلوما، هو صاحب المال وأجهزة الإعلام. ونحن العرب الأمريكيين لا نملك من أيٍ منهما شروى نقير.
ولأننا، نحن العرب الأمريكيين، أقلُ التجمعات الأثنية انغماسا في الانتخابات، وأضعف حماسة، وأفقر تبرعا لهذا الحزب أو ذاك، فلسنا على بال أحد من المرشحين. وقد يكون لهذا الواقع المحزن نصيبٌ كبير في عدم اهتمام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بمشاعرنا، وعدم تخوفها من غضبنا، وعدم طمعها برضانا وتأييدنا، خصوصا حين تَتخذ قرارا يمس قضايانا وعقائدنا ومقدساتنا.
ورغم أن نخبةً من رجال الأعمال والمثقفين والسياسيين العرب الأمريكيين متوزعون على الحزبين، وينشطون أيام الانتخابات، ويقومون بحملات دعائية وتبشيرية كبيرة لإقناع مواطنيهم بضرورة تأييد هذا الحزب أو ذاك، إلا أن النتائج كانت، دائما، تُخيّب آمالهم، وتُحرجهم مع حزبهم ومرشحيه.
والرئيس ترمب، خلافا لما كان عليه جميع رؤساء أمريكا الذين سبقوه، كما هو معروف عنه، رجلُ تجارة ومقاولات وصفقات وعمولات، وإن كل ما اكتسبه من خبرة ومهارة، عبر نصف قرن من الزمان، كان في إدارة البارات ونوادي القمار وتجارة العقار والفنادق الباذخة، وقد أثبت فيها شطارته الفائقة إلى أبعد حدود.
وتنسى جماهيرنا العربية العريضة حقيقته تلك، وتتهمه بالانتهازية والأنانية، وتطالبه بأن يكون عادلا ومنصفا، وبأن يحترم حقوق الشعوب، وكأنه حين خالف، مع سبق الإصرار والترصد، جميع القرارات الدولية، وأزعج حلفاءه الأوربيين، وأحرج أصدقاءه وحلفاءه العرب، لم يكن مدركا لما سوف يتسبب فيه قراراه، من تظاهرات وهتافات وشتائم عربية كاسحة لن تلبث أن تهدأ، ثم تخف، ثم تتوقف بعد حين.
ورغم أن زوج ابنته يهودي أمريكي، ويعزو إليه كتابٌ ومحللون عرب كثيرون هندسة قرار القدس، إلا أن ترمب، نفسَه، من قبل أن يترشح للرئاسة بسنوات، كان يحرص على مجاملة الجالية اليهودية الأمريكية، ويزور تجمعاتها، ويشارك في أعيادها كلها، ولا تفوته مناسبة إلا ويكيل عواطف المحبة والعشق لإسرائيل، ولا يخاف ولا يستحي.
وقد كان مُنتَظرا وطبيعيا أن يُغضب قرارُه الأخير جميع الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، وجماهيرَ عريضة في أغلب الدول العربية.
ولكن الذي لم يكن متوقعا أن يختار عربُ أمريكا، حتى في هذه، أن يجلسوا متفرجين على التل، مع الأسف الشديد.
فأغلبُ الذين تظاهروا ضد القرار في واشنطن العاصمة وبعض الولايات الأمريكية الأخرى كانوا فلسطينيين.
ولكن حين يتعمق المراقب المحايد في دراسة ظروف العرب الأمريكيين الحياتية والسياسية والاقتصادية قد يعذر كثيرين، ويدين كثيرين.
فبعضهم غارق في هموم حياته ورزق عياله. وبعضُهم الآخر لم يتخلص، بعدُ، من عقدة الخوف المتوارث من السلطة، وبالأخص أؤلئك القادمين من بلاد الأمن والشرطة والمخابرات.
يضاف إلى كل ذلك أن كثيرين من المهاجرين العرب، وخصوصا القُدامى منهم وأبناءهم وأحفادَهم قد انسلخوا، أو كادوا، من الروابط القومية والدينية العربية، وصاروا أمريكيين جدا، ولم يُعرف عنهم عشقٌ للسياسة والنضال والثورة والعروبة وفلسطين، ولم يطالبوا يوما بالموت لأمريكا وإسرائيل.
ولكن العتب كل العتب على (الثوار) و(المجاهدين) الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين الأمريكيين الملتحقين بمركب الولي الفقيه على صمتهم و(تطنيشهم)، وقد كانوا أشد المتشددين المبشرين بالمقاومة والممانعة، وأكثر الناس هتافا بحياة القدس، وبتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وبمحو إسرائيل من الوجود. فضيحة وأية فضيحة!!!