17 نوفمبر، 2024 4:25 م
Search
Close this search box.

تركيا .. مراجعة الاخطاء !

تركيا .. مراجعة الاخطاء !

من الواضح جدا ان تركيا اطلقت خلال الشهور القلائل الماضية اشارات ايجابية حيال العراق بعد تأزم وتصعيد وتوتر استمر حوالي عامين.
   لماذا صعدت انقرة في السابق المواقف مع بغداد، بحيث بدا واضحا انها تدفع بالامور الى الهاوية، او قل الى نقطة اللاعودة، ولماذا تراجعت الان وراحت تعمل على تصحيح اخطائها؟.
   قد لاتنته الامور، ولاتكتمل الصورة عبر الاجابة على التساؤلين الانفي الذكر، لكن بالتأكيد يمكن ان تتوضح مجمل معالم وملامح والوان الصورة، مع اهمية الاقرار والتذكير بحقيقة ان المشهد الاقليمي العام شهد الكثير من الفوضى والارتباك الذي ترافق مع تحولات ومتغيرات بدت دراماتيكية ومفاجئة، وكانت تركيا جزءا من ذلك المشهد، وربما كانت من بين اجزائه المهمة والمحورية لاسباب وظروف وعوامل شتى لسنا هنا في هذا السطور بصدد الخوض بتفاصيلها.
   ولعل التوقف عند توقيت بدء التصعيد التركي ضد العراق اواخر عام 2011 شيء مهم للغاية، كما هو الحال بالنسبة للاتجاه والنزوع نحو التهدئة منذ ثلاثة شهور.
   التصعيد التركي ارتبط بعدة معطيات، من بينها:
-تفجر وانطلاق ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي” وقفز تيارات الاسلام السياسي الى واجهة الاحداث في دول الربيع، كتونس ومصر وليبيا، وهو مااعتبره النظام الحاكم في تركيا بهويته الاسلامية-الاخوانية، نصرا كبيرا له، يمكن ان يتيح له استعادة مجد الامبراطورية العثمانية بزعامة العالم الاسلامي، وانطلاقا من ذلك التفكير، وتلك الطموحات، وضعت انقرة عدة بلدان في قائمة “ثورات الربيع العربي”، مثل سوريا والعراق، لتخضع انظمتها للتغيير مثل ما حصل في تونس ومصر وليبيا.
-ظهور تحالف او تكتل سياسي اقليمي على اساس مذهبي-طائفي مؤلف من تركيا والسعودية وقطر، بدا لاول وهلة انه قادر بحكم امكانياته المالية والاعلامية والمخابراتية والسياسية ان يرسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الاوسط والعالم الاسلامي على وجه العموم، يقصي منها ايران وسوريا والعراق، وكل من يصطف معهم او يدور في فلكهم، وهو جوهر ما كانت-ومازالت وستبقى-تريده وتطمح اليه اسرائيل.
-الانسحاب الكامل للقوات الاميركية من العراق نهاية عام 2011، وفق الاتفاقية الامنية المبرمة بين بغداد وواشنطن في اواخر عام 2008، وما كان يمكن ان يترتب عليه ذلك الانسحاب من حقائق ومعطيات، من شأنها تشجيع او دفع قوى اقليمية معينة الى سد الفراغ الذي تركته واشنطن، والبحث عن موطيء قدم لها في ساحة حافلة بالتفاعلات الحادة والمحتدمة.
-اتساع نطاق الاحتقان والتشنج السياسي في العراق، واتخاذه طابعا مذهبيا-طائفيا بدرجة اكبر، لاسيما بعد صدور مذكرة اعتقال ضد نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي لضلوعه بدعم وتمويل جماعات ارهابية مسلحة، ومن ثم  هروبه من العراق الى تركيا، وصدور حكم غيابي بالاعدام بحقه، وبعد ذلك استقالة وزير المالية، القيادي في القائمة العراقية رافع العيساوي من منصبه على خلفية اعتقال عدد من افراد حمايته لتورطهم بأعمال ارهابية، وكل ذلك جاء بالتزامن مع تصاعد موجة التظاهرات الجماهيرية في المناطق الغربية، على غرار ماكان يحصل في مصر وليبيا واليمن وبلدان اخرى.
-بروز مؤشرات على احتواء وتطويق الازمة “الظاهرية” بين انقرة وتل ابيب التي اندلعت جراء اقدام الحكومة التركية على كسر الحصار المفروض على قطاع غزة الخاضع لهيمنة حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، من خلال ارسالها بواخر محملة بمواد الاغاثة الانسانية من قبيل الاغذية والادوية، فضلا عن الدعم السياسي والاعلامي لحماس.
-ابرام اتفاقية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التركي المعارض(P.K.K)، تقضي بأنسحاب عناصر الحزب الى الاراضي العراقية، وتحديدا جبال قنديل، والتخلي عن اسلحتهم مقابل ايقاف العمليات  العسكرية التي يقوم بها الجيش التركي ضدهم.      
   وكل هذه المعطيات عكست قوة الموقف التركي، واكتساب انقرة عوامل قوة اضافية جديدة، في وقت كان الطرف الاقليمي القوي، وهو ايران، يواجه ظروفا حرجة في ظل العقوبات والحصار، والضغوطات السياسية والاعلامية من اتجاهات مختلفة.
   بيد ان ذلك في مجمله لم يتعد الجانب السطحي-الظاهري، بعيدا عن العمق، المختلف في الكثير من معطياته وحقائقه، اي بعبارة اخرى ان مابدا انه مكاسب وانجازات استراتيجية لانقرة، لم يكن في حقيقة الامر سوى مسائل عابرة في خضم تفاعلات ومخاضات عسيرة ومتواصلة لم تتبين وتتضح نتائجها الحقيقية في حينه، والدليل على ذلك هو ما حصل فيما بعد، وعبر في جوهره عن افتقار السياسة الخارجية التركيللافق البعيد، وخضوعها لحسابات ضيقة، واحتكامها لانفعالات غير عقلانية.
   كيف ولماذا؟…. يمكننا هنا ان نشير الى المعطيات التالية حتى تكتمل صورة ما اشرنا اليه انفا.
-“ثورات الربيع العربي”، التي بشرت بها تركيا، والقت بكل ثقلها لدعمها وتوسيع نطاقها تحولت الى ماسي وكوارث على شعوبها، لتنتج ثورات مضادة، بعد فشل تيارات الاسلام السياسي في ادارة شؤون بعض بلدان الربيع العربي، مثلما حصل في مصر، وقد شكل ذلك لطمة شديدة لانقرة، التي لم تحسن التصرف بالمرة، حينما فرضت ارادة الشعب المصري ازاحة حكم “الاخوان المسلمين”.
-السيناريو الذي رسمته تركيا مع السعودية وقطر لسوريا وصل الى طريق مسدود، فلا نظام الرئيس السوري بشار الاسد سقط، ولا المعارضة السورية توحدت، ولا الولايات المتحدة الاميركية وبعض حلفائها الغربيين لجأوا الى خيار القوة العسكرية، واكثر من ذلك كله ان المعارضة السورية راحت تتشضى وتتفكك وتتقاتل فيما بينها، على ايقاع التقاطعات بين السعودية من جانب، وتركيا وقطر من جانب اخر، بحيث ان الاموال والاسلحة السعودية والتركية والقطرية بدلا من ان تقوي المعارضة اخذت تستنزفها وتضعفها بالاقتتال الداخلي، لتقدم خدمة مهمة للنظام الحاكم.
-واجهت الحكومة التركية حركة رفض ومعارضة شبيهة بما حصل في عدد من البلدان العربية وانتهت بالاطاحة بأنظمتها وحكامها، ولعل تفاعلات تلك الحركة مازالت قائمة، ومن الخطأ التقليل من شأنها والاستهانة بها، لان شرارة  مايسمى بـ”الربيع العربي”، كانت عبارة عن حرمان مواطن عادي من كسب قوته اليومي بالشارع.
-المنهج الطائفي الذي اصطبغت به السياسة الخارجية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية الاسلامي بزعامة الثنائي (غول-اردوغان)، لاسيما خلال الثلاثة اعوام الاخيرة، تسبب في انحسار الحضور الايجابي لانقرة في المحافل الاسلامية، واضعف الى حد كبير مصداقية الشعارات التي رفعها-ومازال يرفعها-النظام هناك.
-لم تنجح انقرة في دخول الاتحاد الاوربي الذي يبدو انه بات حلما بعيد المنال لها، واذا كانت لاوربا في السابق تحفظات ومؤاخذات على الديمقراطية العلمانية التركية، فأنها تتوجس اليوم كثيرا من السياسات الاخوانية لحزب العدالة والتنمية.
-الاجندات التركية في العراق فشلت بالكامل تقريبا، والتي كانت تتمحور على هدف اسقاط حكومة المالكي “الشيعية”، واعادة طارق الهاشمي الى العراق، وتغيير المعادلات السياسية فيه، وهي ارادت تكرار ماحصل في تونس ومصر وليبيا واليمن في العراق، بيد انها لم تقرأ الواقع السياسي العراقي بدقة وموضوعية، ولم تشخص الفوارق الشاسعة بين النظام السياسي العراقي، وانظمة الحكم في بلدان “الربيع العربي”.        
    هذه الوقائع والاحداث هي التي ارغمت انقرة على مراجعة اخطائها واعادة النظر بمواقفها وتوجهاتها، وان بصورة جزئية وليست كلية، ويضاف الى تلك الوقائع والاحداث تحولات في المشهد الاقليمي والدولي على قدر كبير من الاهمية في صياغة معالم وملامح المرحلة المقبلة، مثل الانفراج في العلاقات الايرانية-الاميركية بعد وصول الشيخ حسن روحاني الى منصب رئاسة الجمهورية الاسلامية الايرانية، والتوصل الى اتفاق طهران ومجموعة (5+1) بشأن البرنامج النووي الايراني، واستعادة روسيا موقعها ومكانتها العالمية، وانتعاش المحور الروسي-الصيني-الايراني-السوري على  حساب المحور الاميركي-البريطاني-السعودي-التركي، ونجاح النظام السوري في البقاء في السلطة.
   ولعل ارشاد هرمزلو كبير مستشاري الرئيس التركي للشؤون العربية اشار في تصريحات صحفية قبل اسابيع قلائل الى هذا الامر بقوله “أن السبب وراء التحول الجديد الذي تشهده العلاقات التركية – العربية هو رغبة تركيا في الوقت الراهن، – أي بعد العلاقات الجديدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية-، بتحسين علاقتها بدول الجوار، اذ ان تركيا ترغب بأفضل العلاقات مع كل الدول”.
   بينما يشير المحلل السياسي محمد كسرواني الى انه “منذ تحسّن العلاقات الإيرانية – الأميركية والتراجع الأميركي عن العدوان العسكري على سوريا، بدا أن حكومة رجب طيب أردوغان تعيد ترتيب أوراقها وإعادة النظر في علاقاتها مع دول الجوار، بعدما تناهى لها لبرهة أنها على وشك استعادة أمجاد “الامبراطورية العثمانية”، لتجري الرياح الغربية والتطورات السياسية ملاحقاً عكس ما تشتهي السفن التركية”.
   ولاشك ان انقرة تدرك ان العراق هو المفتاح الحقيقي لعلاقات حسنة وايجابية مع العالم العربي، ومتى ما تعاطت مع الشأن العراقي، ومع  الملفات المشتركة مع بغداد، كملف الامن، وملف المياه، وملف الاقتصاد، بعقلانية وحكمة وموضوعية فأن الامور ستسير سيرا حسنا، والعكس صحيح. وتجربة الاعوام الثلاثة الماضية خير برهان ودليل، فالتأزم والتصعيد مع بغداد، في مقابل التقارب والتماهي مع الرياض والدوحة افقد انقرة الكثير ولم يكسبها الا القليل القليل.   
    وارتباطا بتأزم المواقف بين الرياض وانقرة، وتصدع جبهة المعارضة السورية، فأن صناع القرار التركي قلقين الى حد كبير من اقدام الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) من توسيع نطاق عملياتها الى الاراضي التركية، وهذا ما يشير اليه  المستشار الرئاسي هرمزلو ، ملمحا الى “امتعاض بلاده من تلك المجموعات المتطرفة التي باتت على مقربة من الحدود التركية – السورية، معتبراً أن مثل هذه المجموعات المسلحة وغيرها من المجموعات المتطرفة تؤثر سلباً على العالم الإسلامي، وان تركيا بشكل عام لا تريد أن تكون هناك أزمات إرهابية على حدودها، فهذه الأمور يجب الابتعاد عنها”.
   وسيكون من بين ابرز اثار التقارب العراقي التركي، على ضوء المتغيرات  والتحولات الجديدة، هو انحسار التأثير السعودي وزيادة عزلة الرياض الاقليمية والدولية، مثلما يؤكد ذلك عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي سامي العسكري بقوله “إن التقارب بين العراق وتركيا جيد ونحن نسعى اليه لتحقيق مصلحة العراق والحيلولة دون حلق تركي سعودي ضد العراق، وان العراق لابد أن ينفتح على كل الدول في المنطقة التي تدعم حربه ضد المجاميع الارهابية ولاتمولها والتي تؤمن بالنظام السياسي الجديد في العراق”.
   وبنفس المعنى يشير الكاتب اللبناني المتخصص بالشوؤن التركية ميشال نوفل الى “ان تركيا لم تفعل كالسعودية التي حردت ووضعت نفسها خارج المعادلة، وأخذت موقفاً يتقاطع مع الموقف الإسرائيلي المعارض للتحول الجيواستراتيجي في المنطقة”.
   واذا كانت المراجعة التركية، وتصحيح المسارات الخاطئة تجاه العراق شيء مهم وذي دلالة، الا انه لايعني نهاية المطاف، لان تبعات واثار سياسات الاعوام الثلاثة، من الصعب بمكان ان تتلاشى وتختفي وتذوب مرة واحدة، هذا في حال افترضنا ان المواقف والتوجهات انقلبت رأسا على عقب، ومثل هذا الافتراض بحد ذاته بعيد نوعا ما عن الواقع، لان سياسات الدول –خاطئة كانت ام صائبة-لايمكن ان تتغير جذريا بين ليلة وضحاها.
 [email protected]

أحدث المقالات