يصنف كثير من المحليين حتى قبل اشهر معدودة نهضة تركيا وبروزها الاقليمي ونشاطها في المنطقة العربية على انه عودة للعثمانية ، ولم يخف بعض المسؤولين الاتراك ذلك ، لكن المشكلة لا تكمن في طريقة تفكير تركيا بنفسها وحلم العودة للماضي والذي انهار منذ أشهر وعادت تركيا للخلف ، المشكلة ترتبط بالعقلية التركية التي كانت ترى العرب والدول العربية القريبة منها خاصة، بانها تعيش الفترة المظلمة وتنتظر ولاة السلطان يغيروا فيها ، فتعاملت انقرة مع الوضع العربي على انه فترة ما قبل الاستعمار الانكليزي والفرنسي والايطالي للدول العربية ، فسقطت بحلم السلطان ، واستفزت الغرب وجعلته يحلم بالعودة الرومانسية ولكن هذه المرة لعرب النفط .
تركيا التي أرادت قيادة الربيع العربي سرعان ما تفاجأت بربيع تركي كاد ان يحيلها الى ركام لولا تغافل الغرب المقصود وعدم تدخله فيها كما كان مع الربيع العربي ، ولكانت تركيا من ذلك الحين للان تعيش ربيعا تركيا له اول وليس له اخر ، فحالة الاضطراب السياسي التي شهدتها تركيا تسببت في تدهور اقتصادها وإصابته بحالة من الركود في غضون اشهر رغم السيطرة على الوضع الامني التركي ، وسلسلة الاعتقالات التي شهدتها تركيا لكبار وزراء حكومة “أردوغان” وبعض القضاة والقادة ، أدت إلى انخفاض الليرة التركية في مقابل وصول الدولار الأمريكي إلى أعلى مستوى له، بسبب بيع المستثمرين الأجانب الأسهم والسندات التركية وتحويل الأتراك مدخراتهم إلى دولارات ،ثم انتشرت عدوى فضائح الفساد التي تلاحق حكام الربيع العربي الى انقرة وحتى قبل ايام قليلة تلقى رجب طيب اردوغان الذي يواجه فضيحة سياسية – مالية ، ضربة جديدة مع بث تسجيل صوتي جديد يتضمن اتهامات بأن وزيرًا سابقًا تلقى رشوة من رجل اعمال معروف.
ولن تتوقف هذه الاتهامات سواء ما جاء منها بالدليل او بغيره فيما يبدو ان مسلسل الفضائح سيطول ويتعقد ويتفرع .
كان من ابرز اسباب ما تعانيه تركيا انها تحركت وراء انفعالاتها في غضون الربيع العربي ، وشعرت انها ستكسب ثمار ما يجري ابتداء من تونس التي زارها اردوغان وحلم بتعيين وال لها من الاخوان المسلمين ، او في مصر التي نسي اردوغان ان يتعامل فيها مع الدولة ، فتعامل مع شخص مرسي وحزب الاخوان دون ان يدرك ان مصر الدولة كانت تنتظره وليس الاخوان فقط .
وفي ليبيا حلمت انقرة ان تستمد قوة مضافة مما جرى ، لكنها فشلت هي الاخرى ، غير ان الدرس الاول الذي ايقظ تركيا من غفلتها هو الوضع السوري الذي اعتقدت انه سيتغير بمجرد انشقاق عسكريين او هروب اشخاص الى تركيا ، ولكنه لم يكن كذلك اصلا .
مشكلة تركيا اليوم انها تحتاج الان للاقتراض من صندوق النقد الدولي بسبب سياسة اروغان ووجود ركود اقتصادي كبير ، فيما لم يكن اردوغان يفكر بهذه النتيجة بسبب لهاثه وراء حلمه الشخصي ورضاه وفرحه عندما بدت تظهره أجهزة اعلام غربية وهو يلبس العمامة السلطانية ويحمل اسم السلطان اردوغان ، دون ان يدرك ان الامور في الخفاء تسير ضده ، وذلك ما اكتشفه مؤخرا عندما ” اسر لمقربين منه ان “الهدف الرئيسي لهذه العملية هو انا”.
نعم ( هو الهدف ) لانه ادرك الان ان انفعالاته كانت توريطا وليس سياسة ، وكان الموضوع السوري عملية ( سحب قدم ) الى منطقة القتل ودفعه لاغفال مشروعه الاقتصادي الذي كان مادة تسويقه الرئيسية في العالم العربي ، ومنذ اقل من عام بدأ اردوغان يتراجع شيئا فشيئا عن دوره في الموضوع السوري ، ثم ما انفك يعيد ترتيب اوراقه الداخلية التي انطلقت فجأة عبر مسلسل فضائح الفساد ، وردوه فعله الانفعالية ايضا بتبديل وزير الداخلية واقصاء ضباط كبار وقضاة وقمع ضد متظاهرين .
كانت الضربة الاكبر لاردغان حاءت من مصر بينما كان يفكر في كسب نصر في الملف السوري ، وانتهى الاخوان في مصر ولم يستطع اردوغان ان يفعل شيئا ، وفشل اردوغان في استمالة السعودية والامارات بسبب مصر ، فخسر جزاء كبيرا من قاعدته الخليجية مما اثر على نتائج اهدافه في سوريا حيث كانت تلك الدول تنظر معه ذات النظرة .
نعم لم يعترف اردوغان بصدمته في مصر لكنه يحصد نتائجها الان في الشارع التركي الذي تشجع على رفض الاحزاب الدينية بسبب عوامل الايحاء المصري من درس السيسي ، وهو ما فهمه اردوغان متأخرا ، وسيحصد نتائج صعبة في الانتخابات البلدية المقبلة حين يكتشف انه خسر ساحته الداخلية بفعل احلامه الخارجية .
كان اهم شي لم يعترف به اردوغان وكان بداية مسلسل خسائره ، هو دوره الفاشل في العراق حيث لم يتمكن من كسب الحكومة العراقية وظل يعيش تناقضات عدة ، فهو يساند مطالب السّنة في العراق ولكنه يتخلى عنها في الازمات للحفاظ على مصالحه التجارية مع العراق ، وهو ما ادركه العراق بوحي ايراني فراحوا يلاعبونه ويساومونه على الوضع السوري حتى تراجع مجبرا الى الخلف وراح يأخذ دور المراقب او المتفرج مع دور بسيط على الارض لن يغير من الامر شيئا .
اردوغان اليوم يعيش اخطاءه ، ولكنها الاخطاء التي لم تصل الى درجة الخطايا ويمكن اصلاحها ، اذ لم ترتبك البنية المؤسساتية التركية حتى الان ، كما لم تشهد البنى الاقتصادية انهيارا كبيرا ، ولكن المطلب ببساطة هو اعادة تقييم ، واعادة اولويات تركيا وابرزها الداخل ، وترك حلم الخارج وصورة السلطان ، وادراك متغيرات الاجيال والعالم .