8 أبريل، 2024 6:11 م
Search
Close this search box.

تركيا الحالمة بين التاريخ والجغرافيه

Facebook
Twitter
LinkedIn

في تاريخ الشرق الاوسط الحديث ، والهلال الخصيب وتركيا قلب هذا الشرق ، اتفاقيتان ، تختلفان في الشكل وتتسقان في المضمون ، وجّهتا مساره خلال المئة سنة الماضية. أولهما تقسيم المنطقة العربية بموجب اتفاق السيدين المحترمين مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي تم الاعلان عنه عام 1917، والثانية تقسيم الدولة العثمانية في لوزان السويسرية بين حلفاء الحرب العالمية الاولى عام 1923.
قبيل ست سنوات تقريبا من انقضاء مائة عام على اتفاقية سايكس بيكو ، انطلقت في الشرق الاوسط عواصف ما يسمى بالربيع العربي ، وما زلنا نحصد آثارها . وكانت المخاوف من هذا الربيع ولمّا تزل ، ان تتمخض احداثه عمّا يسمى بالشرق الاوسط الكبير ، أو بتعبير آخر كما يحلو للسياسيين ان يصفوه بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ . وفي تركيا ، وقبيل ما يقارب الست سنوات من بلوغ عمر معاهدة لوزان مئة عام ، يشير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى تعسّف هذه المعاهدة في سلخ اجزاء من أراضي تركيا ، ويتحدث عن جزر تركية في بحر ايجة سلخت منها لصالح اليونان ، ويقوم بعمليات عسكرية داخل تركيا وخارجها للقضاء على مجموعات كوردية تتطلع للأنفصال عن تركيا . كلا الحدثين حريّ برفع المشاعر التركية الوطنية الى الحد الاعلى .
مما لاشك فيه ان تركيا قد خطت خطوات واسعة في طريق نموها الاقتصادي ، فهي عضو في مجموعة الدول العشرين المصنّفة كأقوى الدول اقتصاديا في العالم ، وفي عهد حزب التنمية والعدالة بقيادة السيد أردوغان ، اصبح اقتصادها في المرتبة الثالثة عشر عالميا والخامس أوربيا ، وتطمح في الوصول الى المرتبة العاشرة عالميا والثالثة اوربيا بحلول عام 2023 ، وهو العام الذي سيصادف مرور مئة سنة على معاهدة لوزان وميلاد الجمهورية التركية . ومنذ تسلم الرئيس اردوغان زمام القيادة ، سعت تركيا الى ان تكون قوة اقليمية تمتلك علاقات مؤثرة مع الدول التي كانت في اطار الجغرافية العثمانية ، ولم تعبء بقلق الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة من هذا الاتجاه ، ومن نهجها في احياء الروح الاسلامية والقومية التركية بعد ان كانت تركيا ، ومنذ نشأة الجمهورية ولغاية تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم ، دولة علمانية تبني مجتمعها على اساس القيم الغربية وتشكّل بوصلة سياستها الخارجية صوب الولايات المتحدة والغرب . في هذه الفترة الاردوغانية ، يأتي تعزيز النزعة القومية التركية متماهيا مع انبعاث القيم الاسلامية وترسيخها والدفع بها نحو الخارج مصحوبة بالتغني بملاحم الاجداد ، على عكس ماكان الحال عليه سابقا منذ تأسيس الجمهورية التركية حيث كان تعزيز النزعة القومية يأتي دائما على حساب تراجع القيم الاسلامية . في مثل هذه الأجواء حيث يتعمق تداخل السياسة بالدين والقومية بحركة المجتمع ، وفي ظل قيادة رجل ذرائعي طموح مثل السيد أردوغان ، تكون الرغبة في استعادة الامجاد حاضرة تترقب اية فرصة سانحه لكي تعلن عن وجودها حاضرا . فهل سيكون الاحتفال بذكرى مرور مئة عام على معاهدة لوزان وولادة الجمهورية التركية هي الفرصة المرتقبة! وهل تشجّع مثل هذه الاجواء تركيا لأعادة النظر في معاهدة لوزان ! استلهاما بالحرب التي خاضتها ضد اليونان المدعوم من الحلفاء لمدة ثلاث سنوات من أجل أسقاط معاهدة سفر المبرمة عام 1920 والتي حمّلت تركيا أعباءا باهضة مسّت سيادتها بالصميم . لقد اسقطت تركيا معاهدة سفر بعد انتصارها على اليونان ، واجبرت الحلفاء على ابرام معاهدة جديدة في لوزان عام 1923 ، قبلت بها تركيا باعتبارها أقل سوءا من سابقتها . فهل سيشجع ذلك تركيا على اعادة التفاوض حول معاهدة لوزان ! واذا كان مصطفى كمال اتاتورك قد فعلها عام 1923 فلماذا لايفعلها رجب طيب أردوغان عام 2023 ! من الطبيعي ان مثل هذا الامر يعتمد على الامكانات والقدرات التي تتوفر عليها تركيا ، ومدى عناصر قوة الدولة فيها ومتانة تحالفاتها الخارجية ، من اجل القيام بمثل هذا الامر . ان قوّة الدول هي التي تحدّد مضامين الاتفاقيات وهي التي تحدّد نقضها ايضا وهي التي ترسم الحدود . تاريخيا ، كانت عين تركيا تتطلع الى الغرب والجنوب ، بسبب صعوبة التمدد في الشمال حيث روسيا القيصرية وفي الشرق حيث الدولة الصفوية الشيعية . وهكذا تمدّد العثمانيون في أوربا وحاصرو فيينا، ووصلوا الى شمال افريقيا ، ونزلوا على سواحل البحر الاحمر وبحر العرب والخليج العربي . وتركيا الاردوغانية ، وهي حاضرة الآن في الخليج والبحر الاحمر ، تجاهر بتغزلها بامجادها العثمانية وتتوق لأستعادتها ، ولكن هل يمكن للتاريخ أن ينتصر على الجغرافيا . التاريخ عاطفي والجغرافية واقعية . وكم من الاحلام والاوهام انهارت امام قوة الواقع وجبروته . فهل يحقق التاريخ لأردوغان طموحه وأحلامه أم ستسحقها الجغرافية وتضيع تركيا ! وفي السياسة كل شيء متوقع ، والمتغيرات كثيرة ، والاصطفافات والتحالفات تتبدل وتتنوع . قديما كانت الدولة العثمانية تتطلع الى تحالفات مع الغرب لكي تستطيع مجابهة روسيا القيصرية ، وقدّمت تنازلات كبيرة من أجل ذلك ، بما في ذلك ألتخلي عن بعض ممتلكاتها ، وتحالفت تركيا الجمهورية مع الغرب ضد الاتحاد السوفياتي ونسّقت معه في المواقف بشأن روسيا الاتحادية . بيد ان كل ذلك لم يحل دون ان تتجه الى التحالف مع العدو روسيا في مواجهة مع الصديق الولايات المتحدة والغرب في شمال سوريا ، فالمصالح هي صاحبة اليد العليا في سياسات الدول والمباديء تتكيف وتتلون في ضوئها .
سيشهد الشرق الاوسط احداثا كبيرة خلال هذه الفترة وفي المستقبل المنظور ، وسيكون مسلسل التغيير طويلا ومعقّدا وشاقّا ، فما ان تهدأ النار في بقعة جغرافية الاّ لتندلع نيران اخرى ، وسيكون الحصاد مؤلما بالنسبة لنا ولكن ربما سيكون غير ذلك للأجيال التي تأتي ، والله أعلم .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب