تكتنف الباحث صعوبات وإشكاليات في ما يتعلق بالعلاقات التركية – الإيرانية، بعضها من طبيعة منهاجية وأخرى من طبيعة عملية، لا سيما في المشهد الأخير الذي تركه الحراك الشعبي العربي وتداعياته، فقد تجد اختلافات إلى درجة القطيعة أحياناً، وعوامل تقارب تشكل عنصر تفاهم وتواصل لا يمكن الاستغناء عنها أحياناً أخرى.
ولعل من أبرز القضايا التي ستكون محط صراع وجدل طويلين بعد الربيع العربي هو موضوع نشر الدروع الــصاروخية لحلف الناتو في تركيا وعلاقة ذلك بالملف النووي الإيراني، وذلك لما له علاقة بقضية ذات بعد تاريخي ومستقبلي، وإن اكتسبت بعداً آيديولوجياً في العقود الثلاثة الماضية، وهو التعارض بين المشروعين التركي (ذي التوجه الديموقراطي)، لا سيما بعد فوز حزب العدالة والتنمية في العام 2002 بالضد من النموذج الإيراني (الراديكالي)، خصوصاً منذ الثورة الاسلامية في إيران العام 1979، وبما له من انعكاسات على عموم الصراع في المنطقة، ولا سيما بعد الربيع العربي، وتفاعله مع الأزمة السورية، إضافة إلى علاقته بنشاط حزب العمال الكردستاني، لا سيما على الأراضي العراقية، ناهيكم عن علاقته بالقضية الكردية ككل ومستقبلها، عراقياً وتركياً وإيرانياً وسورياً.
ويتوقّف على حلّ هذه القضايا والتأثير المحتمل للربيع العربي على العلاقات الإيرانية ـ التركية، لا مستقبل العلاقات فحسب، بل جزء أساسي ومهم من مستقبل المنطقة سواء باتباع حلول سلمية ناعمة أو حلول خشنة قد تؤدي إلى المجابهة أو الصراع، لا سيما لو دخلت إسرائيل على الخط، وخصوصاً في موضوع المفاعل النووي الإيراني، إضافة إلى المنافسة التركية ـ الإيرانية، التي هي أقرب إلى ماراتون تاريخي.
لقد شهدت العلاقات الإيرانية ـ التركية توترات ونزاعات وحروبا منذ منتصف القرن السادس عشر، مثلما حفلت باتفاقيات دولية أبرزها معاهدة أرضروم الأولى 1823 ومعاهدة أرضروم الثانية 1848 وبروتوكول القسطنطينية 1911 وبروتوكول طهران العام 1913 بين الدولة العثمانية والامبراطورية الفارسية وكان العراق تاريخياً ساحتها الأساسية، لا سيما في فترة الامبراطورية الفارسية أو في فترة الخلافة العثمانية، بعض منها جيوسياسي وتاريخي والبعض الآخر أساسه مذهبي وطائفي، وإن كان كل منهما يضع المصلحة الفارسية أو التركية فوق كل اعتبار.
وكانت تلك الاتفاقيات تحت باب حسن الجوار واحتواء التوترات وتوازن المصالح، لا سيما عندما تكون القوتان المتنافستان متوازيتين، وحصل هذا في السنوات الأخيرة بشأن أفغانستان وباكستان أيضـاً، على الرغم من تعارض الاستراتيجية التركية والإيرانية، وكذلك بشأن العراق لأنه بوابة أساسية للعالم العربي فضلاً عن نفوذه المحتمل في الخليج وعلاقة ذلك بدور الاحتلال الأميركي ومستقبله، لا سيما بعد الانسحاب في نهاية العام 2011، إضافة الى الموضوع الكردي، ومخاوف تركيا بشأن تركمان العراق ومصالح إيران بشأن علاقتها مع شيعة الحكم في العراق.
ومنذ نجاح الثورة الإيرانية في 11 شباط (فبراير) العام 1979 ونجاح انقلاب كنعان أفرين في 12 أيلول (سبتمبر) العام 1980 كان هناك نسبة توافق استراتيجي بين البلدين، فقد كانا فاعلين رئيسين، في أمن المنطقة، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية بينها، فضلاً عن ذلك، فهما يتشـاركان في الموقف من القضية الكردية وكذلك مع دول المنطقة مثل العراق وسوريا، وفي عقد التسعينيات كلّه كان هناك اجتماع ثلاثي دوري بين تركيا وإيران وسوريا لاتخاذ موقف موحد إزاء القضية الكردية في العراق، خصوصاً بعد سحب النظام العراقي إدارته السياسية والمالية من كردستان وقيام حكم ذاتي خارج السلطة المركزية، والأمر يتعلق بمخاوف الدول الثلاث من احتمال قيام دولة كردية في شمال العراق.
ولعل الأمر لا يقتصر على أفغانستان والباكستان والعراق، بل يمكن القول ان تحقيق سلم وأمن المنطقة بما فيها آسيا الوسطى لا يمكن أن يحدث دون توافق استراتيجي بين تركيا وإيران بما يؤثر على وسط آسيا وجنوبها، ناهيكم عن الحاجة بالنسبة إلى إيران لتركيا كجسر للغرب.
ومع كل هذه الجوانب فهناك عوامل تنافس تاريخية بين أنقرة وطهران، لا سيما حول إمكانية الاستفادة من الربيع العربي، فقد ترافق ذلك مع موافقة تركيا على نصب الرادارات الخاصة بالدروع الصاروخية لحلف الناتو ببلدة كوراجيك بولاية ملاطيا التركية الحدودية مع إيران، الأمر ألذي أدى إلى تشديد التوتر الناجم عن أزمة الثقة بين البلدين.
وقد فسّرت أنقرة الأمر بكونه لا يتعدى عن تساوق روتيني مع متطلبات العضوية في حلف الناتو، لكن إيران اعتبرته تهديداً فعلياً لها، خصوصاً في موضوع الملف النووي الذي تشترك فيه إسرائيل والولايات المتحـدة والغرب عموماً وتركيا أيـضاً، فــهو يجرّد إيران من امتيازات تتمثل في ترسانتها من المنظومات الصاروخية المتوسطة والطويلة المدى، التي تعتبرها أداة رادعة بوجه احتمالات هجوم إسرائيلي أو حتى أميركي ضد المفاعلات النووية الإيرانية أو أي أهداف استراتيجية، وقد هددت إيران بأن أي هجوم إسرائيلي أو أميركي عليها، سوف تردّ عليه بضرب الرادارات التابعة لحلف الناتو في تركيا.
وأقدمت تركيا على هذه الخطوة كرسالة إيجابية للغرب بشكل عام، لا سيما وهي لا تزال تتشبث بعضويتها في الاتحاد الأوروبي أيضاً وهي رسالة إيجابية خاصة لواشنطن وللاتحاد الأوروبي، خصوصاً بدعم المعارضة السورية واستضافة اجتماعاتها، وفي الوقت نفسه فهي رسالة سلبية إلى إيران بشأن ملفها النووي، كما أنها رسالة إلى العراق حليف إيران حيث نشطت جماعات شيعية وأخرى كردية، ليس بمعزل عن إيران لدعم نشاطات حزب العمال الكردستاني، حيث كانت طهران قد ألقت القبض على أحد قادة الحزب المذكورين، وتردّد اسم نائب رئيس الحزب، لكنها أطلقت سراحه، وقيل ان ذلك تم عبر صفقة مع «العراقيين». ويأتي ذلك عشية الانسحاب الأميركي من العراق، وهو له دلالة خاصة على مستقبل الوضع في العراق ودور إيران ونفوذها.
في سياق التحولات في المنطقة برز المشروع التركي، كمشروع ديموقراطي لدولة علمانية ومبشر لإسلام منفتح، يقابـله المشـروع الإيراني لنظام حكم يضع ولاية الفـقيه فوق كل اعتبار، وإذا كان الأول يحاكي النمط الغربي، فإن الثاني كان قريباً من مشروع الممانعة العربي ضد الهيمنة الإسرائيلية والأميركية.
المشروعان المتضادان يسعيان كلّ بطريقته لمدّ نفوذهما إلى العالم العربي: الإيراني بوسائل خشنة عبر التدخل ودعم القوى الراديكالية وفي إطار مذهبي وديني في الغالب. أما التركي فيسعى بالوسائل الناعمة، عبر قوة المثل والتقدم المحرز والعلاقة المتصالحة مع الغرب ومع ما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي، مع الإبقاء على علاقة خاصة مع إسرائيل على الرغم من تصدعها بسبب حادثة أسطول الحرية، لكن هناك بعض الاتفاقيات الأمنية مثل اتفـاقية ترايندت التي لا تزال نافذة منذ الـعام 1958 وكذلك فإن حجم الميزان التجاري بين تل أبيب وأنقرة لم يتأثر.
المشروع الإيراني مجابه، في حين أن المشروع التركي مصالح، الأول يعتمد على الوسائل العنفية ويشجع على الصدام بالحـكومات التي يعتبرها لا تنسجم مع أطروحـات الممانعة، في حين أن الثاني يسعى لنشر الديموقراطية بالوسائل الناعمة والتنمية الاقتصادية والجمع بين الاسلام والعلمانية والحداثة، وإنْ كانت له قفازات نووية، أو أن سيفه العثماني هو بغمد نووي، في حين أن المشروع الإيراني لا يتورّع من الظهور أحياناً بخلفية صفوية حتى وإن ارتدى الجبّة الاسلامية واستند إلى ولاية الفقيه أو مذهب آل البيت.
وقد أثار المشروع الإيراني ردود فعل حادة، لا سيما بعد اندلاع حركة الاحتجاج في البحرين وتدخّل مجلس التعاون الخليجي، وإن كان الأمر لا يخلو من مفارقة حقيقية، فهو إن بدا مشجعاً وداعماً سياسياً ومعنوياً، لمشاريع التغيير في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، لكنه ظل معارضاً بل رافضاً للتغيير في سوريا، وهو ما حصل فيه تعارض حاد مع الموقف التركي، وهذه مفارقة أخرى في مقابل المفارقة الإيرانية، فقد بدا الموقف التركي أكثر تطرفاً من الموقف الأوروبي والأميركي، بشأن سوريا لدرجة أنه اعتبر المسألة السورية قضيته الأساسية، وبلا أدنى شك كانت قرارات جامعة الدول العربية، تشجعّ تركيا في تصعيد موقفها، خصوصاً باستمرار سفك الدماء.
وبكل الأحوال يبقى الموضوع الأكثر إثارة وتوتّراً، هو المفاعل النووي الإيراني، ويقابله بناء الدروع الصاروخية للناتو في تركيا، الذي قد ينسف جسور الثقة التي حرص البلدان على بنائها في السنوات الثلاثين والنيف الأخيرة.