23 ديسمبر، 2024 12:45 ص

ترجل المفسر التنويري محمد شحرور

ترجل المفسر التنويري محمد شحرور

“إن الإصلاحات الثقافية والدينية أهم من السياسية ، لأنها شرط لأية إصلاحات مدنية أخرى”

خسرت الثقافة العربية فارسا من أعظم فرسانها الذين دافعوا عن العلم والنقد والعقلانية في زمن التراجع والانغلاق ألا وهو الأستاذ والمفسر السوري محمد شحرور الذي اشتهر بقراءاته العلمية للقرآن ودوره البطولي الاستثنائي في اعتماد التفسير التقدمي للنصوص والانتصار إلى القيم الكونية والمبادئ الحضارية. لقد ولد العلامة سنة 1938 ودرس الهندسة المدنية في جامعة دمشق وسافر إلى موسكو بعد إعجابه بالفكر الماركسي ولكنه تحول إلى الدراسات التراثية وأصدر سنة 1990 بحثه المثير المعنون: “الكتاب والقرآن” الذي جعل منه واحدا من أفضل الباحثين المجددين في القراءات المعاصرة للوحي حيث طبق مناهج لغوية واستنتج منها رؤى وتصورات ثورية وانتهى إلى التمييز اللافت بين التنزيل والذكر والفاتحة وأم الكتاب ولقد جعله ذلك ينطلق نحو القيام بمراجعات جذرية للموروث الديني أفضت إلى تشكيل مرجعية حداثية للمسلمين واحتلال مكانة بارزة في وجدان الكثير منهم بفضل توفيقه بين النقل والعقل وبين الفهم والشرع. لقد انطلق المهندس في صناعة الظاهرة الشحرورية غير مكترث بحملات التشويه والتطاول التي شملته وتوغل في عالم المعرفة الدينية متسلحا بالعقل والعلم والتجربة ومعتمدا على اللغة في الفهم والتنقيب والنقد والمقارنة بين العقائد والمرافعة عن الجوانب النيرة من التراث ومثل صوته العلامة الفارقة والمنيرة في سماء ثقافة اجتاحتها الجحافل والخفافيش من كل حدب وصوب وعمل جاهدا على التمييز المفهومي وإنارة السبل المظلمة وإرشاد التائهين وإجابة الحائرين والرد على المشككين في قوة منهجه العقلاني التنويري. والحق أنه أدى واجبه المعرفي والتنويري باقتدار وانتمى إلى جيل من المفسرين المجدديين العمالقة على غرار الجابري وأركون وتيزيني ومروة والعظم والذين تباهت بهم الثقافة العربية والإسلامية وسط الأمم ولكنهم رحلوا وتركوا فراغا كبيرا احتله التافهون والسفسطائيون والمتاجرون بالمعرفة وبآلام البسطاء. لقد تضمنت قراءته المعاصرة للقرآن رؤية متكاملة للعلاقة بين الدولة والمجتمع وحاول التمييز بين الدين والسلطة من خلال تشريحه لمفهوم الحاكمية وبين الإسلام والإيمان عن طريق التركيز على القصص وإعادة تأصيل علم أصول الفقه بحيث يراعي حقوق الإنسان وينصف المرأة وينتصر للمساواة والكرامة من خلال تأسيسه لفقه المرأة في الإسلام ولم يهمل في بحثه المعمق قضية الحديث والسيرة وميز بين السنة النبوية والسنة الرسالية وحاول تجفيف منابع الإرهاب وبرهن على تهافت التقليديين وقصر نظر النصيين. من أعمال الراحل الإصلاحية يمكن ان نذكر رفضه الخضوع لسلطان الفقه الإسلامي واعتماده التجديد المنهجي في التفسير وإيمانه بالقيم المدنية ودعوته إلى الإقلاع عن الماضوية والعودة إلى إحياء الاجتهاد. في هذا الإطار يصرح المصلح الديني في واحدة من أهم أقواله ما يلي: “العقل الفقهي جعل العقل العربي عاجزا عن إنتاج المعرفة، عندما يصنع هاتف مثلا أول ما يسأله العربي هو: هل هذا حرام أم حلال؟، بدل من أن يسأل كيف صنع!، والعقل الفقهي جعل المواطن العربي لديه عدة التلقي وليس عدة السؤال”. لقد خسرت الدراسات العلمية المعاصرة للدين برحيل المفكر اللامع محمد شحرور أهم وجوهها الفاعلين في المشهد الإعلامي ودعاتها المتحمسين للتنوير والعقلانيية وهو ما يعقد الوضعية ويعسر المجهود النقدي الذي يعرف في العقود الأخيرة الكثير من التراجع وينبه كل المثقفين العضويين إلى الاستئناف والاستفاقة. في الواقع فارس من جيل العمالقة التنويريين يترجل ويترك فراغا كبيرا في زمن يحكم فيه التافهون ويطفو فيه على السطح المزيفون وخسارة كبيرة لا يمكن تعويضها بسهولة بالنسبة للعلوم الدينية رحيل هذا المفسر المجدد. فكيف يمكن استثمار المواقف الشجاعة التي اتخذها والجرأة النقدية التي تميز بها في إحداث ثورة ثقافية؟