ترامب يوقع على موت حلف الأطلسي!

ترامب يوقع على موت حلف الأطلسي!

بعد التصريحات الصادمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب حول أوكرانيا، جاء خطاب نائبه جي فانس في مؤتمر الامن في ميونيخ ليسدد صدمه أخرى للحلفاءويفاجئ بدوره كل الدول الاوربية الاعضاء في حلف شمال الأطلسي .، على طريقة ترامب الهجومية غير المتوقعة، بدأ جي فانس خطابا عنيفا ضد الاوربيين في عدة محاور حول تراجع الديمقراطية وحرية التعبير ومسألة الهجرة ، حيث توجه لممثلي الدول الاوربية بالقولان التهديد الذي يقلقه أكثر في اوربا ليس الصين ولا روسيا بل هو التهديد الذي يأتي من الداخل ، انه تراجع أوربا عن قيمها الأكثر أهمية التي تتقاسمها مع الولايات المتحدة في الديمقراطية.، يقول جي فانس انه صُدم من فرح موظف أوربي كبير )هو الفرنسي تيري بروتون (لإلغاء انتخابات رومانيا بالكامل بسبب شكوك عن تأثيرات روسية فيها، محذرا انه اذا لم تتم الأمور كما يجب سيحصل ذلك مجددا في المانيا، التي شهدتانتخابات قبل أيام فاز فيها المحافظون المسيحيون أصحاب الخطاب اليميني القريب من خطاب ترامب ونائبه فانس. وتساءل جي فانس هل اننا نحترم بما فيه الكفاية معايير ديمقراطية عالية تجمعنا في نفس المعسكر. واستنكر نائب الرئيس الأمريكي تراجع حرية التعبير في اوربا كما في اميركا على عهد الرئيس بايدن حيث هُددت شركات التواصل الاجتماعي بالإغلاق وتم الضغط عليها لمنع ما سمي اخبارا كاذبة حول فايروس كوفيد والمختبرات في الصين، وأعتبر التضيق غير مجد ولا يحمي من شيء بل على العكس هو الوسيلة الأكثر نجاعة لتدمير الديمقراطية، وشّدد على محاربة “خطاب الكراهية” ضد المرأة وأشار بقمع حرية التعبير في بعض الدول الاوربية معتبرا إياها ابتعاد عن قيم الديمقراطية والحرية كما تراها الولايات المتحدة، وانتقد على طريقة اليمين المتطرف اوربا على استقبالها المهاجرين الذين يقول ان اعدادهم قد ازدادت في السنوات الأخيرةويصفهم ترامب بالمجرمين والمختلين عقليا”؟!. أما الأمر الذي صدم اعضاء المؤتمر قول جي فانس بأن اميركا لن تساهم بعد اليوم بأي مساعدات للدول الاوربية، لأن ماتقدمه اميركا يذهب الى وجهات غير معروفة لهم ، في إشارة الى مساعدات بالمليارات لأوكرانيا.

لقد أثار خطاب جي فانس في مؤتمر الأمن هذا أكثر من مسؤول اوربي، فقد خنقت الدموع كريستوف أوسغينرئيس المؤتمر خلال القائه خطابه، ورد وزير الدفاع الألماني )السابق( بحِْدة على هذا الهجوم وقال في كلمتهانه يرفض التدخل بشؤون بلاده، بينما ساد صمت مرير في قاعة المؤتمر واختفت أصوات التصفيق التي اعتقد فانس كما قال بداية انه سيحظى بها. ان هذا الخطاب العنيف من حليف أوربا الأكبر والأهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يشكل ثورة في العلاقات السياسية والاستراتيجية بين أوربا وأميركا ، انه بداية لنهج جديد في العلاقات الدولية وإعلان لسياسة إدارة الرئيس ترامب الأمنية أزاء أوربا، لم يخلو من العجرفة والاهانة لحلفاء الأمس، لكنه بدا في نفس الوقت متحاملا على ما يعتقده “تبديد المليارات التي تشارك بها الولايات المتحدة في ميزانية حلف شمال الأطلسي، ورفض أدعاء الرئيس ماكرون في المكتب البيضاوي الذي أدعى ان الاوربيون يشاركون بنسبة 60% من ميزانية الحلف ليبدي ترامب شكوكه فيها وتكراره رقم 350 مليار دفعته اميركا لأوكرانيا.

لقد كرر ترامب أثناء حملته الانتخابية عدة مرات انه لو كان في الحكم لما قامت الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبعد فوزه أعلن انه سينهيها ويضع لها حدا بدون العودة لأوربا وحلف الأطلسي وبدون أوكرانيا، حيث قال سأحلها بوحدي وإذا لم يعجبكم ) اوربا( ذلك فهذا شأن يخصكم، وأطلق تصريحه الخطير بنظر الأوربيين عن بقاء الحدود بين روسيا وأوكرانيا كما كانت قبل عام 2014 ، ووصف زيلينسكي بالدكتاتور، ليختم وزير الدفاع الأمريكي بهذا القول الصادم بأن بلاده لم تعد الضامن للأمن الأوربي!

اعتبرت الدول الاوربية تجاهلها في مفاوضات الحرب الأوكرانية الروسية سابقة في العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتهميش كامل لما تقوم به منذ ثلاث سنوات لمساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا، ولم تنجح محاولات وزيرة الخارجية السويدية ماريا مايمرستنغارد مع الجنرال كيث كيلوج مبعوث ترامب لأوكرانياطلب دور اوربي في المفاوضات، ولا تمكنت طريقة كلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اللطيفة الذي زار ترامب في البيت الأبيض من الحصول على ضمانات أميركية لحفظ الامن في أوكرانيا حين التوصل لوقف الحرب ، بل ان خبراء الاستراتيجية الفرنسيين رأوا ان لا داع للتوسل والركوع امام ترامب، وبدل هذا الاذلال عليهم ان يفكروا ويجدوا فيما بينهم حلا لأمنهم وبديلا عن الحماية الأميركية لهم التي ضمنها ميثاق حلف شمال الأطلسي )مقابل هامش من الحرية السياسية( . ليس ذلك فحسب، بل، وأمام الوضع العسكري الواقعي لعلاقات القوة بين المعسكرين الروسي والأوكراني الذي لن يتغير بسبب موازين القوى بين روسيا وأوكرانيا، ولأن هذهقد خسرت الحرب ولن تتمكن من الانتصار امام القوة الروسية التي أخذت الأرض ،فأن استمرار الحرب سيؤدي الى مزيد من الخسائر على كل المستويات للطرفين المتحاربين وسيؤدي الى خسائر مالية فادحة لا طاقة للدول الاوربية من تحملها ، فأما ان تتدخل الجيوش الاوربية وهو مما سيفجر الوضع الى حرب عالمية  ، او تقوم بنشر قوات اوربية لحفظ السلام وقد جربت الدول الاوربية ذلك سابقا ولم ينجح في اوربا،  يتبقى من كل ذلك ربما حل نشر قوات حفظ سلام من دول الجنوب او من دول البريكس وحتى من دول الخليج العربي على الحدود بين روسيا وأوكرانيا لان روسيا لن تتعرض لمثل هذه القوات الصديقة لها.

لقد منع رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون وسلفه كير ستارمر فلووديمير زيلينسكي من إعطاء التنازلات للرئيس بوتن وبقيت بريطانيا تشجعه على الاستمرار بالحرب كما دخلت فرنسا فيها بقوة لكن هذه المحاولات وليومنا هذا لم تجد نفعا في حسم الحرب ! لكن الغريب ان دول حلف الأطلسي تعتقد بعد ثلاث سنوات من الحرب ووجود علاقات قوة غير متكافئة انه ما زال بإمكانها انتزاع نصر وهو ما لا يتفق معه العسكريون الاوربيون.

لأول مرة تضع الولايات المتحدة حلفائها الاوربيون في حلف الأطلسي امام خيار صعب لم ينتظروه وربما لم تفكر به كثير من دوله ما عدا فرنسا التي دائما ما طرحت على اوربا رؤيتها التي تسميها بالاستقلال الاستراتيجي الذي يتمثل بالسياسة الديغولية الميترانية وذلك منذ عقود.، لكن هذه الرؤية لم تقنع الحكومات الأوربية التي كانتترى في القوة الأميركية الضمان الوحيد لأمنها بعد الحرب العالمية وبالأخص عقب نهاية الحرب الباردة. ان عودة اوربا للتفكير بالاستقلال الاستراتيجي والبدء ببناء أمن مشترك لم يعد خيارا بل ربما الحل الوحيد والمناسب لمن طرحه ) فرنسا( بل أيضا لمن رفضه سابقا.    

لقد وضعت الولايات المتحدة دول حلف الاطلسي بشكل جدي امام خيار الاستقلال الاستراتيجي الذي أعتبر مرفوضا بعد غزو العراق بحجة تأثيره على فرنسا وأمنها ،لكن يبدو ان ذلك قد أصبح اليوم هو الحل المناسب . لقد أمنّت سياسة الاستقلال الاستراتيجي وسياسة التوازن لفرنسا ولعقود مكانة دولية متميزة ومحترمة حول العالم لم تحظى بها دولة أخرى، والعودة لهذه السياسة فرنسيا وأوربيا هي أمنية كثير من السياسيين والدبلوماسيين الفرنسيين والاوربيون الذين كانوا شهودا لثلاثة عقود على سياسات امبريالية أميركية يرفضوها افسدت علاقاتبلدانهم مع دول الجنوب وبالأخص مع العالم العربي من غزو العراق غير الشرعي الى حرب الإبادة والمجازر في فلسطين المحتلة.