ترامب ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم

ترامب ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم

من ينتظر أن تمطر سماء ترامب المنّ والسلوى، فهو كالأحمق الذي ينتظر الفوز ببطاقة يانصيب لتأسيس مشروع اقتصادي يضمن به مستقبله.

بدأ موسم التحليلات والتمنيات السياسية مع اقتراب عودة دونالد ترامب، إذ لم يتبقَّ سوى ثلاثة أسابيع أو أكثر بقليل على تتويجه كرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.

تصوير الأحداث من شر وخير وحصرها في إطار ردود أفعال شخصيات معينة هي سمة شائعة وظاهرة عامة في الوسائل الاعلام المختلفة للنظام الرأسمالي الذي يشتد التنافس بين اقطابه. وتقف وراء هذه الظاهرة سياسة ممنهجة تهدف لتحقيق أغراض محددة، وابرزها التعمية على القوانين الموضوعية والأسس التي تنتج تلك الأحداث من حروب وانقلابات عسكرية واحداث الفوضى والتدخل في شؤون البلدان وتزوير الانتخابات وقلب الثورات وتمويل العصابات والمليشيات وتعكير صفو الأمن والسلام.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يستمر الإعلام بكل ألوانه في تسويق صورة استمرار حرب غزة والإبادة الجماعية بشخص بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأهدافه الشخصية، والحرب الأوكرانية بشخص فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، بالإضافة إلى الدعم غير المشروط لدولة إسرائيل في ظل إدارة بايدن.

الأكثر من ذلك، يعزو عدد من المحللين والكتاب، الذين لا يجدون سلوان ولا عزاء، أسباب الهزيمة المتوقعة لكاميلا هاريس في الانتخابات الأمريكية أمام دونالد ترامب إلى دعم إدارتها لجرائم إسرائيل في فلسطين ولبنان.

وهكذا تستمر الحالة مع دونالد ترامب، حيث ينتظر منه البعض إيقاف الحروب وقلب المعادلات السياسية في العالم. إنه تصوير ساذج يسوقه فاقدو البوصلة، الذين لا حول لهم ولا قوة.

 

دور الأفراد في التاريخ:

 

صحيح أن الأفراد لهم دور في صنع التاريخ، ولكن لا يمكنهم القفز فوق القوانين الموضوعية للتاريخ. فالإبداع والخلاقية يكمنان فقط في دور الأفراد بمعرفتهم لهذه القوانين، وإيجاد آليات لتفعيلها، للسير وفق إيقاعها.

فعلى سبيل المثال، لا يمكن لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي بلغت فيها العلاقات الرأسمالية مرحلة الإمبريالية، أن تنكفئ إلى الداخل بإرادة شخص مثل دونالد ترامب، كما يُروَّج عنه، من خلال استحداث قوانين حمائية والوقوف بوجه قوانين العولمة الاقتصادية، كما تُسمى.

إن الانعزالية الأمريكية التي تعبّر عن نفسها بشعار “سنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” (حركة ماغا) تبقى مجرد ديماغوجية شعبوية في الخطاب الترامبي للتعبير عن آهات وسخط الطبقة العاملة والمحرومين والكادحين الذين خسروا وظائفهم وارتفعت عليهم تكاليف المعيشة، بسبب انتقال الشركات والوظائف إلى دول مثل الصين وفيتنام وكمبوديا وإندونيسيا والمكسيك بسبب رخص اليد العاملة هناك.

فالانعزالية تتناقض مع المكانة الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية، كما تتعارض مع ما تبقى من الحلم “الأمريكي”، الذي يعني في جوهره الرخاء الاقتصادي. وهذا الرخاء لا يمكن تحقيقه دون تمدد النفوذ السياسي والاقتصادي في البلدان التي تُجبَر على الدوران في فلكها.

إن الحروب في عالمنا الحديث ليست ظاهرة عشوائية أو مجرد نتائج نزاعات بين دول لأسباب شخصية أو دينية، بل هي نتاج حتمي للبنية الاقتصادية والاجتماعية للنظام الرأسمالي. أي بعبارة أخرى ان الحروب هي ظاهرة ملازمة للنظام الرأسمالي، وإنها امتداد للسياسة، والأخيرة تعبير مكثف عن الاقتصاد، كما تعلمنا الأدبيات الماركسية. وفي خضم الصراع على الأسواق والنفوذ، فإن واقع الدول الإمبريالية يفرض عليها شن الحروب من أجل الهيمنة السياسية، وبالتالي الهيمنة الاقتصادية.

إن الدول التي تستخدم ما تُسمى بـ”القوى الناعمة”، مثل الصين، وتحاول التسلل إلى أسواق العالم عبر الاقتصاد ومنح القروض وإقامة المشاريع، يُحتِّم عليها في النهاية امتلاك قدرات عسكرية أو تطويرها، لأنه في مكان ما وزمان ما، سيُحتَّم عليها الاصطدام مع القوى الإمبريالية الأخرى المنافسة لها على النفوذ السياسي والاقتصادي، أو كما يُسمّى في الأدبيات السياسية “صراعًا جيوسياسيًا.

لم يهبط دونالد ترامب بالمظلة من كوكب آخر إلى البيت الأبيض، بل يُعبّر عن رؤية تيار سياسي في صفوف الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية. تلك الرؤية ترى مكانة الولايات المتحدة كدولة إمبريالية، بمعناها الاقتصادي والسياسي، في وضع لا يُحسَد عليه، خاصة في ظل بروز أقطاب عالمية إمبريالية أخرى، مثل الصين وروسيا والهند، إلى جانب 16 بلدًا آخر في منظومة الدول الصناعية (G20).

إن الغبار الذي تثيره وسائل الإعلام حول صعود ترامب بزعم أنه سيغيّر مسار العالم يطمس الحقيقة بشأن ما آلت إليه تلك المكانة. ترامب، وإن كان احتمالًا ضعيفًا، قد يتمكن من تهدئة الحروب وإدارة الأزمات أو تأجيلها لفترة معينة، لكنه لن يستطيع إخماد نيرانها. كما أنه لا يمكنه الوقوف في وجه تقدّم الأقطاب العالمية على الصعيد الاقتصادي، وذلك وفق قوانين التطور الرأسمالي.

إن أي خطوة نحو الانعزالية وفرض الحمائية بشكل مفرط ستعمّق أزمات أمريكا الاقتصادية وتُسرّع انحسار نفوذها، وبالتالي تؤدي إلى انتحارها كقطب عالمي.

 

ما بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي

سياستان في مسار واحد:

 

من يراقب ويتابع التعيينات التي يجريها ترامب لتشكيل إدارته لتسلُّم السلطة في شهر كانون الثاني المقبل من عام 2025، سواء كانت تعيينات وزير الخارجية أو مسؤول الأمن القومي أو سفيره في مجلس الأمن وإسرائيل أو وزير الخزانة والدفاع، وغيرهم، يلاحظ أن غالبيتهم من حكام الولايات وأعضاء مجلسي النواب والشيوخ في الحزب الجمهوري. بمعنى آخر، يمثل ترامب رؤية لمكانة أمريكا لجناح معين داخل الحزب الجمهوري. فهو لم يستقدم تلك الشخصيات من “المدن الفاضلة” أو من تخيلات الفلاسفة الغارقين في تفسير العالم، كما يشير ماركس.

وإذا تتبعنا المسار السياسي للحزبين الجمهوري والديمقراطي في السياسة الخارجية، نجد بسهولة أنهما يعكسان رؤية سياسية متفقًا عليها من قِبل الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتسمان بانسجام واضح حولها. فعلى صعيد العلاقة مع الصين، يتفق الطرفان على أنها المنافس الأكبر لاستمرار الهيمنة الأمريكية على العالم.

منذ خطاب الولاية الثانية للرئيس الديمقراطي باراك أوباما، ركّزت الإدارة على الانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه نحو المحيط الهادئ لاحتواء الصين. وهكذا، بدأت إدارة ترامب بشيطنة الصين خلال جائحة كورونا، تمهيدًا لفرض العقوبات عليها، وهو ما أقرّته إدارة بايدن واستمرت فيه. أما خطة الانسحاب من أفغانستان، فقد وضعتها إدارة أوباما، وأطّرت ملامحها إدارة ترامب، ونفّذتها إدارة بايدن، وإن كان ذلك بشكل فوضوي ألحق ضررًا بصورة أمريكا عالميًا لبعض الوقت.

وفيما يتعلق بالعقوبات على روسيا، كانت إدارة ترامب أول من دشنها، ثم طوّرتها إدارة بايدن لتتجاوز 12 ألف عقوبة بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.

أما في العلاقة مع ما يُسمّى “القارة العجوز” (أوروبا)، فقد طالبت إدارة ترامب ببيع الغاز الأمريكي إلى أوروبا، وفرضت لهذا الغرض عقوبات على مشروع “السيل الشمالي 2” الروسي قبل تفجيره خلال الحرب الروسية على أوكرانيا. واليوم، تمضي إدارة بايدن في بيع الغاز الأمريكي لأوروبا بأسعار تصل إلى ثلاثة أضعاف سعر الغاز الروسي. كما أن مطلب ترامب بزيادة الإنفاق العسكري على حلف الناتو بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة عضو في الحلف، أصبح هدفًا تسعى جميع دول الناتو لتحقيقه أو الاقتراب منه خلال عهد إدارة بايدن.

تحسين العلاقات مع السعودية بدأ في عهد إدارة ترامب، لكن إدارة بايدن طوّرته ليصل إلى صياغة تحالف استراتيجي مع المملكة، شمل إعادة بيع الأسلحة الهجومية والعمل على بناء مفاعل نووي لأغراض سلمية داخل السعودية.

الاختلاف بين الرؤى السياسية لكل من ترامب وأوباما وبايدن وهاريس يكمن في الشكل وطريقة إدارة الأزمات السياسية العالمية. ويتمثل هذا الاختلاف، في جانب منه، في أسلوب الدعاية السياسية (البروباغندا) المتعلقة بإدارة الصراعات الدولية، والتي تضع مكانة الولايات المتحدة أمام أسئلة عملية تتطلب الإجابة عليها.

فترامب، على سبيل المثال، لا يدّعي الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا يرفع شعارات براقة تحمل تلك القيم. لذا، انسحب من جميع المؤسسات الدولية، مثل اتفاقية باريس للمناخ، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وغيرها.

في المقابل، نجد أن إدارة بايدن عطّلت أو تجاهلت جميع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية المتعلقة بجرائم إسرائيل في غزة وحرب الإبادة الجماعية التي تقودها. ومع ذلك، حافظت على وجود الولايات المتحدة داخل تلك المؤسسات. وهذا يبرز الفرق بين ترامب وبايدن: الأول لا يضع “رتوشاً” أو قناعاً لتغليف السياسة الأمريكية بالدبلوماسية، بينما يوظف الثاني ملايين الدولارات في تنقلات وزير خارجيته بين بلدان العالم لتخفيف أثر الصدمات الاقتصادية والسياسية الناتجة عن السياسة الأمريكية.

بالتالي، من الناحية العملية، لا يوجد اختلاف كبير بين السياستين من حيث المحتوى أو خدمة تحقيق استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة

السابع من أكتوبر والاستراتيجية الامريكية بين الدبلوماسية والردع:

 

وفي الشرق الأوسط، فإن السياسة الأمريكية لحد الان تجاه إيران، تحديدًا، لم تختلف سواء في عهد أوباما أو ترامب أو بايدن. إن رؤية ترامب، ومن ورائه الجناح المشار إليه في الحزب الجمهوري، تتفق بشكل قاطع مع الحزب الديمقراطي على أنه ليس من ضمن الاستراتيجية الأمريكية إسقاط النظام السياسي في إيران-وهذا ما صرح به أيضا فريق ترامب قبل أيام-. ويتفق الطرفان، الديمقراطي والجمهوري، على احتواء إيران، مع وجود اختلاف في درجة الخشية والحذر من النفوذ الإيراني، إذا كان يهدد أمن دولة إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة أم لا.

إدارة ترامب لم تكن مختلفة في موقفها من الاتفاق النووي مع الدول (5+1)، لكنها حاولت إدراج البرنامج الصاروخي وحلفاء إيران، مثل حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي، ضمن الاتفاقية كجزء من رزمة متكاملة.

وعلى صعيد عملية السلام، لا توجد موضوعة” حل الدولتين” في استراتيجية الحزب الديمقراطي ولا الحزب الجمهوري في المنطقة. وقد أفشى ترامب هذا السر عندما صرّح في إحدى مقابلاته قبل الانتخابات الرئاسية بأنه لا يرى حل الدولتين أمرًا ممكنًا أو واقعيًا.وفضلا على ذلك لم تحرك إدارة بايدن ساكنا تجاه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالجولان السورية كأرض إسرائيلية من قبل إدارة ترامب. وقد باركتها أي إدارة بايدن بشكل عملي خلال الأربع السنوات المنصرمة.

بعبارة أخرى، يمكن تلخيص سياسات الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الشرق الأوسط بأن هندسة ‘صفقة القرن’ كانت تعبيراً سياسياً مكثفاً عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة، مقابل إحلال السلام من خلال عمليات التطبيع بين إسرائيل وجيرانها.”

في مقال نُشر مؤخرًا في مجلة فورين أفيرز، القريبة من صانعي القرار في الطبقة الحاكمة الأمريكية، بعنوان “الضرورة الأمنية القومية لرئاسة ترامب”، أشارت الكاتبة كوري شيك، التي كانت عضوًا في مجلس الأمن القومي الأمريكي خلال إدارة جورج دبليو بوش الجمهورية، إلى أن إدارة بايدن افتقرت إلى سياسة الردع، مما شجّع إيران والميليشيات التابعة لها في المنطقة على التمادي على هيبة أمريكا، كما شجّع بوتين على شن حرب ضد أوكرانيا.

وتضيف: إذا كان بوتين يهدد بالسلاح النووي، فعلينا ألا نخشى تهديده. وكان تردد إدارة بايدن في توريد الأسلحة الضرورية لأوكرانيا خوفًا من تهديدات بوتين قد أوصل الحال إلى ما نراه في أوكرانيا. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير ما أقدمت عليه إدارة ترامب من تصفية قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في محيط مطار بغداد في الأيام الأولى من عام 2020. وقد كان يُخشى أن تؤدي عملية الاغتيال إلى اندلاع حرب مع إيران.

أي أن الحزب الجمهوري، وهو يمثل رؤية جناح في الطبقة الحاكمة الأمريكية كما أسلفنا، يرى أن الدبلوماسية تأتي بعد عملية الردع، وليس العكس. ويدرك النظام الإيراني هذه السياسة، لذلك أرجأ قرار الرد على إسرائيل بعد فوز ترامب إلى إشعار آخر.

إن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لنتنياهو هو في الواقع والحقيقة مشروع أمريكي يتم تجديده الآن. وبقدر ما يخدم مكانة إسرائيل في المنطقة ومشروع التطبيع مع محيطها، فإنه بنفس القدر يخدم النفوذ الأمريكي، ويسهل عملية التفرغ لاحتواء الصين في المحيط الهادئ.

ولكن تكلفة نجاح هذا المشروع ستكون باهظة، ولن يتحقق دون المزيد من الحروب التي تخوضها اسرائيل، كما نرى ويلاتها في المنطقة. فلا سلام بدون حل القضية الفلسطينية، التي أصبحت شماعة لشرعية التمدد القومي الإيراني في المنطقة.

وعليه، فإن سياسة إدارة ترامب لن تخرج عن دائرة استراتيجية إدارة بايدن، وهي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكانة الولايات المتحدة الأمريكية ونفوذها السياسي. وستشهد المنطقة مزيدًا من التوترات التي قد تشعل حربًا طالما حاولت إدارة بايدن منعها.