ترامب ودول الخليج … من انتهاء حرب الرصاص إلى بداية حرب الإرادات وإعادة إعمار قطاع غزة؟

ترامب ودول الخليج … من انتهاء حرب الرصاص إلى بداية حرب الإرادات وإعادة إعمار قطاع غزة؟

تمثل هذه اللحظة الراهنة في سياق التصريحات , والتي ما تزال متضاربة بين أصحاب الشأن ” إسرائيل وحركة حماس” والضامنيين ” أمريكا ودول الخليج والاتحاد الأوروبي ” على حد سواء  ويترك كمنعطفاً بالغ التعقيد في مستقبل ما سوف تؤول إليه مستقبل انتهاء هذا الصراع , حيث تحل الآن موجة من التصريحات والارتياح المشوب بالحذر محل سماع دوي الانفجارات والقصف والتي ما يزال مستمر لغاية هذه اللحظة وحسب ما تنقله شاشات التلفزة الاخبارية العربية ، هذه الفرحة بانتهاء جولة التصعيد الصدام المسلح الأخيرة في قطاع غزة، ولكنها ما زالت فرحة ناقصة ومغلفة بقلق وتوجس عميق من مدى وهشاشة وقف إطلاق النار وعدم وضوح معالم المرحلة القادمة. فالحرب ، وإن توقفت مؤقتاً، ولكن في المقابل هناك حرب اخرى قد أفسحت لها المجال بالدخول بقوة وسوف تكون بالتأكيد أشد تعقيداً تدور رحاها على جبهات مختلفة ومتعددة ومن اهمها : إعادة الإعمار، وإدارة الهدنة، ومستقبل الصراع السياسي والإقليمي وكذلك الالتزام بالاتفاق وعدم خرقه او حتى محاولة ايجاد ذرائع لخرقه من كل الطرفين وبالأخص هناك ما يزال تخوف من قبل المجتمع الدولي من اليمين المتشدد المتطرفين في حكومة رئيس الوزراء نتنياهو .
الان تنطلق تصريحات الوعود الدولية والتي  تُعد باعادة عملية إعادة إعمار قطاع غزة، التي دُمرت بنيته التحتية بشكل شبه كامل، هذه المعركة الأكثر إلحاحاً وإشكالية في الوقت ذاته. وتبرز هنا عدة تحديات جوهرية من حيث قدرة المجتمع الدولي على توفير مبالغ طائلة والكلفة الهائلة المادية لإعادة الإعمار والتي تقدر ليس بعدة مليارات من الدولارات ولكن بعشرات المليارات والتي تقدر جهات اوربية بما يصل الى مبلغ 75 مليار دولار او حتى اكثر . صحيح انه قد أعلن الرئيس الأمريكي  دونالد ترامب ومن خلال مؤتمره الصحفي اليوم الخميس 9 ت1 وقبل ساعات قليلة بانه سوف يقوم بزيار ة مرتقبة الى الشرق الاوسط وعن مبادرة تهدف إلى جلب التمويل من دول الخليج، مستنداً في ذلك إلى ما وصفه بـ “النجاح” في جلب استثمارات ضخمة في زيارته الأولى للمنطقة. إلا أن هذا الطرح الذي قد يكون مفاجئ لدول الخليج العربي وبالأخص قطر والامارات والسعودية  قد يثير معه تساؤلات عميقة من قبل أعضاء في الحكومة وقد يكون اعتراض وأصوات ترتفع بأننا لسنا ” بقرة  حلوب ” لاستنزاف اموالنا التي نحتاجها لغرض تنميتنا البشرية والاقتصادية ؟ فهل ستتحمل دول الخليج مرة أخرى وحدها عبء المالي لاعمار قطاع محاصر منذ سنوات، أم أن المجتمع الدولي سيكون مساهم فعال وشريك أساسي للتمويل؟ وقد تطرح تساؤلات عن مدى وموثوقية الضمانات السياسية الامريكية وكيف يمكن ضمان عدم تدمير ما يتم اعادة إعماره مرة اخرى في جولة صراع مستقبلية قادمة؟ وهذا يربط التمويل بشكل مباشر لتحقيق تسوية سياسية مستدامة ومعترف بها دوليا ومن قبل الأمم المتحدة و بضمانة مكتوبة وقرار يصدر من مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي. وهناك مشكلة اخرى سوف تظهر الى الوجود وبعد تدفق هذه المليارات عن مدى وفعالية السيادة والرقابة والشفافية والنزاهة ومن سيدير عملية اعادة الإعمار؟ ومن سيراقب تدفق الأموال وضمان وصولها للجهات الفعلية دون اعتراضات إسرائيلية أو استنزاف من قبل أطراف قد تختلف عليها الأجندات وكذلك محاولة سرقتها من خلال الفساد المالي والاداري وهل سوف تكون هناك جهات ومنظمات مشهود لها بالكفاءة والنزاهة لمراقبة تدفق الأموال الى غاياتها المحددة التي وجدت من اجلها ام ان هناك من سوف يسيل له لعاب لغرض محاولة سرقتها تحت ستار الكلفة العالية لمختلف المواد الانشائية والبضائع المستوردة ؟ لأن لتحدي السياسي في عملية الإعمار ليست مجرد عملية هندسية وبناء واموال ، بل هي في حقيقة الامر عملية ضمانة سياسية بامتياز. وقد تسعى من خلالها الحكومة الاسرائيلية وهذا هو المرجح على الاقل لغاية الان  إلى ربط عملية إعادة الإعمار بتحقيق شروط أمنية صارمة، مثل نزع سلاح الفصائل، بينما قد ترى الفصائل الفلسطينية فيها وسيلة لتعزيز صمودها وشرعيتها. هذا التناقض يحول دون تحقيق إستراتيجية واضحة ومتفق عليها مسبقا بي الأطراف المتصارعين والضامنيين على حد سواء .
صحيح إن وقف إطلاق النار الحالي ما يزال لغاية هذه اللحظة ينظر إليه  والمتابع عن كثب لهذا الشان ويشبهه بـ “هدنة مؤقتة او هشة ” أكثر من كونه اتفاقاً سلام دائماً واكيد . من حيث تتعدد المؤشرات  والتصريحات المتضاربة على هشاشته ومن خلال ما نشاهده حاليا بالاستمرار المتقطع للقصف الإسرائيلي ومما يؤكد أن البيئة الأمنية لم تستقر بعد لغاية الان . وبالاضافة الى التصريحات المتبادلة الحادة بين الطرفين والتلويح من الجانب الإسرائيلي باستئناف العمليات العسكرية إذا لم يتم استكمال تبادل الأسرى والجنود، ومن الجانب الفلسطيني بالرد على أي عدوان. وغياب آلية رقابة دولية فاعلة لمراقبة الالتزام بالهدنة وحل الخلافات. لان هذا الموضوع لم يحسم بالشكل الاكيد والكامل وبالاخص قوائم الأسرى الفلسطينيين الذين سوف يطلق سراحهم وتوافق عليهم اسرائيل فهل سوف يتم اخراجهم الى دولة ثانية ام انهم باقين في داخل الفلسطيني لأن هناك ما تزال عدة سيناريوهات محتملة وبناءً على المعطيات الحالية، يمكن استشراف عدة سيناريوهات المرحلة القادمة:

1.السيناريو الأفضل (وإن كان ضعيف الاحتمال):نجاح الوساطات المصرية والدولية في تثبيت الهدنة لفترة ممتدة، وبدء عملية إعمار حقيقية تشرف عليها جهات دولية محايدة، مما يفتح نافذة للحد من الحصار تدريجياً والدخول في مفاوضات سياسية غير مباشرة. هذا السيناريو يعتمد على توافق إقليمي ودولي غير موجود حالياً.
2. والسيناريو المتوقع (حالة عدم الاستقرار المزمن): ومن خلال استمرار حالة “اللا حرب واللا سلم”، مع تبادل متقطع للقصف العنيف، وتأجيل ملفات الحل النهائي، واستمرار الحصار الاسرائيلي بذريعة عدم توفر الأمن. وعملية اعادة الإعمار ستكون بطيئة ومحدودة، وغير قادرة على مجاراة حجم الدمار أو النمو السكاني المتزايد في قطاع غزة ، مما يزرع بذور الشك والتوجس والخوض في جولة صراع مستقبلية قادمة .
3. والسيناريو الأسوأ (العودة إلى الحرب): والتي لا احد يتمناها على الاقل في الوقت الحالي وبعد ان تنفس الجميع الصعداء وانهيار الهدنة سريعاً بسبب حادث أمني أو سياسي طارئ او حتى يكون متعمد من قبل أحد الأطراف ، مما يكون عودة الجيش الإسرائيلي لعملياته في قطاع غزة بحجة “تصفية البنى التحتية العسكرية لحركة حماس ” أو استكمال عملية تبادل الأسرى. وهذا السيناريو سيدمر أي أمل في اعادة الإعمار ويعمق المأساة الإنسانية بصورة مستمرة .

يبقى الامل و التوجس والخيفة ومن خلال الدور الأمريكي والإقليمي والذي سوف يكون  بين “الوساطة” و”البقرة الحلوب” وتأتي تصريحات الرئيس “ترامب” في هذا السياق المعقد. فمن ناحية، يطرح نفسه كوسيط رئيسي للسلام، مستغلاً علاقاته الوثيقة بدول الخليج وإسرائيل. لكن الطريقة التي قدم بها المبادرة – بالتركيز على الجانب المالي وإنجازاته السابقة في “جلب التريليونات” – تعكس نظرة أداتية للمنطقة. تشبيه دول الخليج بـ “البقرة الحلوب”، وإنه يعبر عن رأي شائع ومتداول في أوساط المحللين، إلا أنه يختزل علاقات إستراتيجية معقدة في بعدها المالي البحت فقط ، ويتجاهل وقد يكون بصورة متعمدة وهذا ما يستشف في تصريحه من الحسابات الجيوسياسية والسيادية لتلك الدول، والتي قد لا تكون مستعدة حاليا او في المستقبل لتمويل عملية إعمار دون ضمانات سياسية حقيقية وتشارك بدورها بصورة فعالة وحيوية ومؤثرة في صنع القرار السياسي الفلسطيني وحتى صياغته .


الان الجميع في دوامة الخسائر  وبالاخص أسماء الاسرى الذين سوف يطلق سراحهم والتي ينتظر الجميع الان الحكومة الاسرائيلية المصادقة عليها والتي تترقبها حركة حماس بفارغ الصبر والتي يعتقدها الجميع بانها بادرة حسن نية لغرض استمرار وقف اطلاق النار والرابح الوحيد هو الاستقرار والذي ما يزال هش و المفقود لان الانطباع السائد بأن “هناك رابحاً وخاسراً” في هذه المعادلة هو انطباع خادع. فالحقيقة أن الجميع في دوامة الخسارة:سكان غزة خسروا الأرواح والبيوت والأمل في حياة كريمة وحتى المستقبل. وحتى إسرائيل التي تروج بانها ربحت هذه الحرب واعادة صياغة امنها القومي قد خسرت فعلا الأمن الحقيقي لمواطنيها، واستمرت في عزلها الدولي المتزايد. أما دول الجوار والإقليم فقد خسرت دون شك  الاستقرار والأمن القومي، وأرهقت بتبعات الأزمات المتلاحقة سواء من الناحية المادية او من خلال استقرارها السياسي والاقتصادي وأمنها الاستراتيجي في المنطقة , ولكن قد يكون لنا بان الرابح الوحيد المحتمل هو منطق السلام العادل والشامل والمتكافئ لجميع الأطراف دون تفضيل طرف على طرف آخر ، والذي يضمن حقوق جميع الأطراف ويخرج بالمنطقة من دوامة هذه الحلقة المفرغة من العنف والدمار والخراب والقتل والتهجير. ولكن تحقيق هذا الربح يبدو بعيد المنال على الأقل في الوقت الحالي وفي ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية والرؤية الإستراتيجية الشاملة، لتحل محل حسابات الربح والخسارة الآنية التي تثبت فشلها جيلاً بعد جيل بعد جيل.
 

أحدث المقالات

أحدث المقالات