18 ديسمبر، 2024 5:48 م

ترامب وخيار الدولة الإسرائيلية و’النصف الفلسطيني’

ترامب وخيار الدولة الإسرائيلية و’النصف الفلسطيني’

لا تريد إسرائيل حلا بدولتين لأنها لن تقبل تفكيك المستوطنات ولا ترحيل المستوطنين الذين يبلغ تعدادهم اليوم نصف مليون محتل يجسدون خزانا انتخابيا لكافة الأحزاب الإسرائيلية.

لأوّل مرة منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل برعاية أميركية خالصة يعتبر رئيس أميركي أن حلّ الدولتين قد لا يكون الحلّ المناسب والوحيد للنزاع الفلسطيني الإسرائيليّ في اختراق واضح وجليّ لخطاب واشنطن الرسمي حيال القضية الفلسطينية والذي يتأسس على معادلة “الأرض” مقابل السلام.

والحقيقة التاريخية التي لا بدّ من الإقرار بها كامنة في أنّ معادلة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من أراضي 1967 مقابل إيقاف المقاومات الشعبية والعسكرية والاعتراف الكامل بإسرائيل وبـ”حقها” في الأمن والتواجد الجغرافي على أرض فلسطين التاريخية، ذهبت أدراج الرياح مع اعتبار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون في 2002 أنّ السلام في مقابل السلام والأرض في مقابل الأرض وأنّه لن يعطي للفلسطينيين أكثر ما منحهم إياه لاحقا عند الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومن بعض المستوطنات العشوائية في الضفة الغربية في صيف 2005.

والحقيقة التاريخية الثانية التي تجدر الإشارة إليها متمثلة في أنّ كافة الإدارات الأميركية تبنت عمليّا وجهة النظر الإسرائيلية حيال الاستيطان وضم القدس الشرقية وموضوع اللاجئين والأسرى فيما أبقت على عبارة “حلّ الدولتين” لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي كعبارة إعلامية وسياسية للاستهلاك الفلسطيني والعربيّ. وحتّى الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي أنهى حقبته بقرار دولي يدين الاستيطان كان واحدا من داعميه طيلة فترة حكمه وانزاح عن مقولة تفكيك الاستيطان في الأيام الأولى من ولايته إلى مقولة تجميد الاستيطان في الأيام التالية ومنها إلى عبارة القبول بالنمو الطبيعي للمستوطنات ومنها إلى تفهّم حقّ المستوطنين في الأمن والحياة والامتداد على “أرض الأجداد”.

اليوم، يدفع دونالد ترامب الفكرة إلى أقصاها المتطرف عبر التصريح بأنّ الاستيطان لا يعطّل الحلّ في الشرق الأوسط وأنّ حلّ الدولتين لم يعد الحلّ العملي للصراع، ليتماثل الخطاب ويتماهى مع الممارسة السياسية الأميركية. واشنطن التي كانت الراعية الأساسية والمحورية لاجتماعات مدريد ونيويورك ومن بعدها اتفاقيات أوسلو ولقاءات كامب ديفيد وكافة المؤتمرات الدولية لتسوية الصراع والتي تشكّل ٍقائدة اللجنة الرباعية (مع روسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) لدعم السلطة الفلسطينية في مسار التسوية، تطلق رصاصة الرحمة على منظومة التفاوض الإسرائيلي الفلسطيني فيما لا يزال الفاعل الرسمي العربي والفلسطيني متمسكا بالإدارة الأميركية كراع رسمي للسلام وكطرف فاعل للضغط على تل أبيب ولإجبارها على الانسحاب إلى ما قبل خطوط هدنة “النكسة”.

زلزال ترامب الأخير لا يقلّ ضراوة وخطورة عن تصريح أرييل شارون في 2002 عندما استقبل المبادرة العربية للسلام (الانسحاب الشامل من أراضي 67 مقابل السلام العربي الشامل)، بالاستهتار والاستهزاء قائلا إنّها لا تساوي الورق الذي كتبت عليه. بصريح العبارة لا تريد إسرائيل حلا بدولتين لأنّها لن تقبل تفكيك المستوطنات وترحيل المستوطنين الذين يبلغ تعدادهم اليوم نصف مليون محتلّ يجسدون خزانا انتخابيا كبيرا لكافة الأحزاب الإسرائيلية من اليسار إلى أقصى اليمين.

وبصريح العبارة أيضا لا ترغب تل أبيب في حلّ الدولة الواحدة لأنّها لن تقبل بأي حال من الأحوال خيار الدولة العلمانية القائمة على ثنائية الهوية أي اليهودية والفلسطينية، حيث يعطينا واقع “فلسطينيي الداخل” الذين يعانون من عنصرية سياسية وعرقية وإثنية وقانونية رسميّة دليلا واضحا على سعي صهيوني لإقرار “يهودية الدولة الصهيونية” كواقع ملموس على الأرض عبر سياسة الأسرلة للبشر والتهويد للحجر والصهينة للتاريخ والجغرافيا.

إسرائيل ومن ورائها أميركا تسعيان إلى تأبيد الوضع في فلسطين المحتلة ومأسسة الانقسام وتحويل منظومة التسوية من حلّ الدولتين إلى حلّ “الدولة والنصف”، حيث يبقى “نصف الدولة الفلسطينية” يدير نصف الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وينسّق أمنيا مع تل أبيب ضدّ فصائل المقاومة ويعفي إسرائيل من الفاتورة الاقتصادية أو القانونية الموكولة وفق القانون الدولي حيال أي قوّة احتلال.

هو الاحتلال الرخيص الذي تريده العقلية اليهودية والصهيونية المتاجرة الرافضة لأي تكلفة احتلال ولكنّها في المقابل تبقي على إدارتها العليا لكافة المعابر والمداخل والمخارج وتحافظ على الإشراف التام على الأماكن المقدّسة وتضمّ القدس الشرقية وتحوّل القدس إلى عاصمتها الدينية والسياسية مع تكوين سلطة شكلية تعمل فقط على تأمين التنسيق الأمني والاستخباراتي ودفع رواتب الموظفين الآتية من أموال المانحين الدوليين.

هي إذن “الدولة والنصف” التي عبّر عنها بنيامين نتنياهو في وقت سابق بـ”الدولة الفلسطينية الناقصة” وهي التي لخصتها المدونة الخطابية الأميركية قبل ترامب بـ”الدولة القابلة للحياة” قبل أن يصفها ترامب بخيار الدولة بين المنزلتين؛ منزلة “الدولة الواحدة المستحيلة” ومنزلة حلّ “الدولتين” المحتضر. على الفلسطينيين الاقتناع بأنّ واشنطن ليست راعية للسلام ولا حاضنة لحلّ الدولتين وأنها المسوّغ الدولي لكافة السياسات الاستيطانية والاحتلالية الصهيونية على أرض فلسطين، الحلّ لن يكون إلا بسحب الاعتراف بإسرائيل والانسحاب من اتفاقيات أوسلو 1993 واستعادة المعادلة الأصلية للصراع؛ مقاومة شعبية في مواجهة احتلال فقط.

نفلا عن العرب