استنت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية سياسة الدفاع النشط ضد الخصوم المحتملين ومن الممكن أن يشكلوا خطراً مستقبلياً عليها وعلى مصالحها في العالم، هكذا ولدت الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفييتي السابق ، خير مثل على الدفاع النشط، تهديد الرئيس جون كنيدي بحرب نووية اذا لم يسحب خروتشوف صواريخه من كوبا.
كانت الضربة القاضية للاتحاد السوفييتي سباق التسلح فوق المعتاد الذي بدأه ريغان وأطلق عليه اسم (حرب النجوم)، لم يستطع الاتحاد السوفييتي، المنهك بالبيروقراطية وعجز القيادات المسنّة، على مجاراتها، فسقط سقوطاً مدوياً، نشاهد آثاره حتى يومنا هذا في الحرب الاوكرانية التي هي نموذج لسياسة الدفاع النشط في ملاحقة الولايات المتحدة لروسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق.
عندما بدأت الصين في البروز على المسرح الدولي بدأت الولايات المتحدة سياسة الدفاع النشط ضدها منذ عهد كلينتون.
بين كل الرؤساء الأمريكان، الرئيس الوحيد الذي حاد عن هذه الاستراتيجية هو دونالد ترامب، فقد ميّز بين الخصوم، استمر في ملاحقة الصين وتوقف كلية عن ملاحقة روسيا.
مظاهر العلاقة الدافئة مع روسيا خلال الفترة الاولى لرئاسة ترامب (2016- 2020):
نعمت روسيا بفترة ازهار اقتصادي غير معهود ، كانت المورد الرئيسي للغاز للقارة الاوروبية عبر خطين للأنابيب تحت سطح البحر نوردستريم 1 ونوردستريم 2 . وبدا أن روسيا الاتحادية ستصبح مع الوقت ، لو استمر الوضع على هذا المنوال، جزءاً لا يتجزأ من القارة الاوروبية الكبرى.
استمرت العلاقة مع الصين باردة سياسياً وحارة اقتصادياً، انتظر الجميع نتائج لقاءات ترامب مع كيم جونغ اون رئيس كوريا الشمالية.
علاقة الولايات المتحدة مع روسيا أثناء فترة بايدن (2020 -2024):
عادت الولايات المتحدة الى سياسة الدفاع (الاستفزاز) النشط ضد من تعتبرهم خصومها التقليديين، توّجت استفزازات حلف الناتو الى قيام الحرب الروسية الاوكرانية بتاريخ 24 فبراير 2022، وبتاريخ 26 سبتمبر من نفس العام، تم تدمير خطي الأنابيب نوردستريم 1،2 . يمكن الاستنتاج هنا أن لوبيات مصانع الاسلحة التي تعتاش على الحروب قد سجلت انتصاراً مبيناً، فقد شهدت مبيعاتها أرقاماً قياسية، كانت الإدارة الأمريكية تشتري الاسلحة وترسلها كمساعدات لاوكرانيا، في النتيجة المواطن الأمريكي ( الذين يطلقون عليه دافع الضرائب) هو الذي كان يدفع لأصحاب مصانع الأسلحة، هذه المساعدات سواء لاوكرانيا أو إسرائيل أدت الى رفع مديونية الولايات المتحدة وارتفاع التضخم ومن ثم تدهور الاقتصاد.
مظاهر العلاقة الدافئة مع روسيا خلال الفترة الثانية لرئاسته (2024 – ):
قال ترامب معلقاً على تدهور الاقتصاد الأمريكي ( لو كنت رئيساً لما حدثت هذه الحرب) ويقصد بذلك الحرب الروسية الاوكرانية، وهذا كلام دقيق، كما ظهر من فترة رئاسته الأولى.
حاول ترامب بصفته رجلا قادما من عالم الأعمال ومستفيداً من تجربته السياسية اثناء فترة رئاسته الأولى اصلاح الاوضاع المالية المتأزمة للولايات المتحدة وكذلك تطبيق أفكاره عن المهاجرين اللاشرعيين ووصلت حتى إلى المهاجرين الشرعيين.
كان أول ما فعله فرض الرسوم الجمركية بنسب متفاوتة على كل أقطار العالم، الأصدقاء والخصوم، بما فيهم إحدى جزر الماكدونالدز التي لا يسكنها إلا البطريق، كان هذا محل تندر من الجميع ولكن حوًل أنظارهم واهتماماتهم ولم يعيروا انتباهاً أن دولتين في العالم هما روسيا وإسرائيل، نجتا من غضب ترامب وقبضته الحديدية. من الجدير بالذكر أن روسيا صدرت الى الولايات المتحدة ما قيمته: 3 مليار دولار عام 2024، ومن الطريف أن نذكر هنا ان هذه الصادرات بلغت حوالي 30 مليار دولار عام 2021، وهذا يبين مدى تأثير العقوبات على اقتصاد الدول.
أوقف ترامب صادرات الأسلحة والمعونات المالية لاوكرانيا وفرض عليها اتفاقية لاستغلال المعادن الثمينة لتعويض ما خسرته الولايات المتحدة خلال فترة بايدن.
أمهل ترامب بوتين ستة أشهر لإنهاء الحرب ثم خمسين يوماً إضافية ثم خفض المدة الى عشرة أيام وفي تقديري أنه سيجد مبرراً للتخلص من الموضوع فالذريعة موجودة دائماً، كما لاحظنا تراجعه في مواضيع أخرى.
لتفسير العلاقة مع بوتين ومحاولة لتفسير ما يحدث، علينا الرجوع للتاريخ.
عقد حفل ملكة جمال العالم في موسكو في شهر نوفمبر 2013، كان رجل الأعمال دونالد ترامب هو منظم الحفل.
بتاريخ 12 يناير 2017 وبينما كان ترامب رئيساً للولايات المتحدة ، نشرت هيئة الاذاعة البريطانية التصريح التالي:
علمت بي بي سي أن ضابط الاستخبارات البريطاني السابق، كريستوفر ستيل، المعتقد تورطه في إعداد مذكرات تدعي أن لدى روسيا مواد فاضحة بشأن الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، قد غادر منزله هذا الأسبوع، وأنه الآن “مختبئ”.
وتحوي المذكرات ادعاءاتٍ مبنية على غير أساس، تفيد بأن فريق ترامب تواطأ مع روسيا، وأن لدى موسكو فيديو مسجل لترامب مع عاهرات.
وتفيد المزاعم بأن لدى روسيا معلومات مسيئة عن أعمال الرئيس المنتخب ومصالحه، وعلى أشرطة فيديو محرجة عن حياته الخاصة، بينها إقامته علاقات جنسية مع بائعات هوى في فندق ريتز كارلتون في موسكو.
ونفى ترامب كل هذه المزاعم قائلا إنه كشخصية مهمة يتوخى الحذر فيما يقوم به عندما يسافر إلى الخارج.
وقد عرفت ال بي بي سي جاك ستيل بأنه يعتقد أنه عضو سابق في وكالة الاستخبارات البريطانية (إم آي 6)، وأنه كان مدير شركة تعرف باسم “أوربيس”، وهي جهة تصف نفسها بأنها شركة استخبارات رائدة اسسها ستيل نفسه عام 2009 مع مجموعة من رجال الاستخبارات البريطانية السابقين.
نفت موسكو هذه المزاعم وقالت ان هدفها الاساءة للعلاقات بين البلدين.
جرى تحقيق من قبل الاف بي أي في الموضوع ، الملفت للنظر أن دونالد ترامب طرد جيمس كومي ( عضو الحزب الجمهوري) رئيس الوكالة في شهر مايو 2017.
يقول المثل العربي : لا دخان بلا نار، عندما نحلل هذه الوقائع نجد ما يلي:
1. أعلن دونالد ترامب نيته الترشح لرئاسة الولايات المتحدة في عام 2010 كما ذكر ستيف بانون، صديقه الحميم ومستشاره فيما بعد ، ويمكن أن بانون نفسه قد اقنع ترامب بالفكرة.
2. ربما كان اعلان هذه النية هي سبب استضافة موسكو لحفل ملكات الجمال بعدها بثلاث سنوات، فجهاز المخابرات الروسية ، وريث جهاز الكى جي بي السوفييتي لن يترك فرصة للتدخل في الشأن الأمريكي حتى يغتنمها ومواصفات البليونير دونالد ترامب تؤهله للرئاسة.
ولكن لن نتأكد من هذا الموضوع إلّا اذا بحثنا وتأكدنا أن الذي دفع نفقات هذه الاستضافة هي الحكومة الروسية.
3. لن نعرف حجم ونوعية تسجيلات الفيديو التي تم تسجيلها لترامب ، ولكن ستكون كافية لإخضاع الرجل، مثل هذه التسجيلات لن تظهر أبداً للعلن، ولكن صاحبها يعرف خطرها على سمعته ومستقبله السياسي والاجتماعي.
وبالطبع فإن مثل هذا التحليل سيكون مغلوطاً لو اتخذ ترامب خطوات مضادة قوية لروسيا ورئيسها بوتين الذي أدار جهاز المخابرات الروسي قبل صعوده لرئاسة روسيا.
استكمالاً لهذا التحليل ، من المعروف أن جهاز المخابرات الاسرائيلي المعروف باسم الموساد يعتبر أحد أقوى أجهزة المخابرات في العالم، وأتوقع أنه استطاع الحصول على نسخة من هذه التسجيلات، إذ يقدر عدد الروس الذين وصلوا الى إسرائيل بعد سقوط الاتحاد السوفييتي قرابة مليون نسمة ، هؤلاء ما زالوا يحتفظون بعلاقاتهم مع وطنهم الأم، ومن السهل شراء المعلومات بين هذه الاجهزة المتنافسة ولكنها في نفس الوقت لا تحمل عداوة بعضها لبعض.
بين ترامب ونتنياهو
المتتبع للعلاقة بين ترامب ونتنياهو ، يجد علاقة حميمية من نوع خاص فاقت بكثير علاقة أقرانه من الرؤساء الآخرين، بدأت بالاعتراف بضم القدس والجولان في عهد رئاسته الأولى ، واليوم نجد التاييد الكامل في حرب غزة.
زار نتنياهو مع زوجته سارة ترامب خلال فترة حكم بايدن في مقر سكنه في مار ديلاجو – فلوريدا على الأقل مرة واحدة ، ومن نظر للأمر، قال أنها زيارة مجاملة اجتماعية ، ولكنها لم تكن كذلك ، كانت لإظهار دعم نتنياهو وإسرائيل واللوبيات الصهيونية لترشيح ترامب لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2020، بالنسبة لنتنياهو رئيس مطوّع ( Compromised) أفضل ألف مرة من رئيس يصف نفسه بأنه صهيوني (بايدن) أو من نائبة رئيس ( كامالا هاريس) عملت في كنفه ، حتى لو كانت متزوجة من يهودي.
بالنسبة لترامب كان هدفه الوصول الى السلطة مرة ثانية بأي وسيلة ، كما أن أفكاره ومعتقداته تتماشى مع الأفكار الصهيونية.
أداء ترامب في الفترة الثانية من رئاسته:
لوحظ في تصريحات ترامب أنه يصرح في موضوع ما بطريقة ما، ثم يصرح بنقيض الفكرة في اليوم التالي. وصف بعض المحللين هذا بأنه تخبط وعدم وضوح افكار، ولكن في الحقيقة ان هذه التصريحات المتناقضة في منتهى الذكاء، فهو يحمي نفسه من اللوم فهناك مساحة شاسعة مناسبة لجميع الأطراف.
اضرب مثلاً حياً:
بتاريخ 3 أغسطس قال ترامب أنني أعرف أن هناك مجاعة في غزة ويجب أن تنتهي.
في اليوم التالي، بتاريخ 4 أغسطس قال نتنياهو أن ترامب يؤيد احتلال غزة والقضاء على حماس، وهذا التصريح غير المألوف من رئيس وزراء اسرائيل قيل نيابة عن رئيس الولايات المتحدة ولم نجد في كل تصريحات ترامب خلال أكثر من شهر وخاصة بعد فشل المفاوضات مع حماس أي إشارة الى احتلال غزة.
في اليوم الذي يليه، بتاريخ 5 أغسطس وعندما سئل ترامب عن الموضوع قال أن هذا الأمر متروك لإسرائيل.
وعلى هذا المنوال يمكن تفسير الهجوم الإسرائيلي على إيران.
زرع بوتين وحصد نتنياهو.
—
تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعة “النور الخفي” في مجموعات Google.
لإلغاء الاشتراك في هذه المجموعة وإيقاف تلقي رسائل الإلكترونية منها، أرسل رسالة إلكترونية إلى [email protected].