تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليجالعربي تحولات بنيوية تتجاوز الأطر التقليدية للتحالفاتالاستراتيجية، لتغدو أقرب إلى شراكات ظرفية تحكمهاالمصالح الآنية والضغوط السياسية والاقتصادية. ومع صعودنماذج سياسية غير تقليدية في البيت الأبيض، كما في عهدالرئيس دونالد ترامب، بدا واضحًا أن منطق المعاملة بات يرتكزعلى حسابات تجارية مباشرة، ما أثر في طبيعة التفاعلالأمريكي مع دول الخليج، سواء من حيث التمثيل الدبلوماسيأو مضمون الرسائل السياسية المصاحبة لهذه الزيارات. وفيهذا السياق، تثير جولة ترامب الخليجية تساؤلات حول انتقائيةالتعامل الأمريكي، والدوافع الكامنة خلف بعض قراراتهالسياسية، وما إذا كانت تستند إلى منطق استراتيجي أممحض انتهازية سياسية.
من منظور العلاقات الدولية، يمكن تصنيف ممارسات ترامبضمن ما يُعرف بـ“البراغماتية التوسعية“، حيث لا تُبنىالسياسات الخارجية على أسس مؤسساتية مستقرة، بل علىالتفاوض المباشر الذي يضع الحليف في موضع الطرفالأضعف. هذا النهج أضعف كثيرًا من مكانة بعض الدولالخليجية بوصفها شركاء استراتيجيين تقليديين، ليجعلهم أشبهبزبائن سياسيين، يُطلب منهم الدفع لضمان الدعم. وفي ذاتالوقت، كشف عن غياب توازن في مراكز القوة ضمن هذهالعلاقة الثنائية، ما يُهدد بإعادة إنتاج تبعيات جديدة في البيئةالإقليمية. ويُلاحظ أن غياب بعض الدول عن جدول زياراتترامب لا يرتبط فقط بالحسابات الاقتصادية، بل يعكس تقييمًاأمريكيًا للجدوى السياسية والأمنية من التحالف مع هذهالأطراف، بناءً على مدى مرونتها وقابليتها للامتثال.
حازت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المملكة العربيةالسعودية وعدد من دول الخليج، منها قطر والإمارات التي لم صلها بعد، على اهتمام إعلامي واسع في المنطقة. وقد أفادتتقارير إعلامية بأن ترامب اشترط ضمانات مالية مسبقة قُدّرتبنحو 600 مليون دولار، مع تعبيره عن تطلع لرفع القيمة إلىمليار دولار. وتُظهر المؤشرات أن المملكة تعهدت بتقديم دعممالي ضخم قد يتجاوز التوقعات، في إطار تفاهمات شملتتعزيز الشراكة الاستراتيجية والأمنية مع الولايات المتحدة، معاستمرار الحوار بشأن قضايا إقليمية ودولية مثيرة للجدل، مثلمكافحة الإرهاب ومصادر تمويله.
يمكن توصيف العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة فيهذا السياق على أنها خاضعة لمعادلات المصالح، على غرارمنطق “العرض والطلب“. هذا الطرح يذكّر ببعض الرموزالسينمائية في أفلام الغرب الأمريكي، التي غالبًا ما تصورلجوء الطرف الأضعف إلى القوة مقابل المال. ويُلاحظ أنالسعودية، من خلال التزامات مالية كبيرة تجاه الإدارةالأمريكية، سعت لتعزيز استقرار الحكم داخليًا، خاصة فيظل تحولات سياسية أثارت جدلًا داخل العائلة المالكة،وإجراءات صارمة طالت عددًا من الشخصيات المعارضة. هذهالعلاقة، كما تظهر من منظور بعض المراقبين، توحي بقدر منالتبعية في القرار السياسي، في مقابل ضمانات أمنيةواستراتيجية.
عبّر بعض المحللين عن استغرابهم من مستوى التجاوبالسياسي الذي أبدته القيادة السعودية خلال فترة إدارةالرئيس ترامب، حيث رآه البعض مؤشرًا على اختلال التوازنفي العلاقة الثنائية. وفي مشهد آخر، استقبل ترامب شخصيةمثيرة للجدل، سبق أن طالتها اتهامات بالإرهاب، وهو ما أثارتساؤلات حول معايير السياسة الأمريكية في التعامل معالحلفاء والخصوم.
أما ما رُوّج له حول إلغاء العقوبات الأمريكية على سوريااستجابة لطلب سعودي، فقد اعتُبر من قبل مراقبين محاولةلإبراز نفوذ الرياض إقليميًا، بينما تشير معطيات عدة إلى أنواشنطن اتخذت قرارها في هذا السياق بناءً على مراجعةلمصالحها الاستراتيجية، بعد أن تم تحقيق أهداف مرحلية فيالساحة السورية.
يبرز تساؤل حول دوافع استثناء كل من الكويت وسلطنة عُمانمن زيارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى المنطقة،والتي شملت ثلاث دول خليجية فقط.
في تصريحاته، أشار ترامب إلى أن الأنظمة الخليجية تعتمدعلى الحماية الأمريكية، وأن استمرار هذه الحماية مرهونبالدفع المالي. وتُفسَّر هذه التصريحات ضمن نهجه المعروفالقائم على المقايضة الاقتصادية في العلاقات الدولية.
وتُقدَّم الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة أحيانًاباعتبارها تعبيرًا عن الشراكة، إلا أن هناك من يرى أن هذهالخطوة تمثل مظهرًا من مظاهر الضغط السياسي الذييُمارس على بعض دول الخليج.
فيما يتعلق بالكويت، تُربط خلفية استثنائها بأحداث تاريخيةتعود لفترة التسعينيات، حينما تلقت دعمًا أمريكيًا لإعادةالشرعية السياسية عقب الغزو العراقي، في مقابل تفاهماتمالية طويلة الأمد.
أما سلطنة عُمان، فإن استقرارها السياسي، واستقلاليتهاالنسبية في القرار الخارجي، قد يفسران غيابها عن أجندةالزيارة.
ومن منظور تحليلي أوسع، فإن الاعتماد المفرط على الحمايةالخارجية لا يضمن ديمومة الأنظمة، وقد يؤدي مستقبلًا إلىمطالب إضافية تمسّ السيادة، خصوصًا في ظل تغيّرالإدارات الأمريكية وتبدّل مصالحها.
إن تأمل نمط العلاقة بين واشنطن وبعض عواصم الخليجيكشف عن أزمة في مفهوم السيادة، حين تتحول الضماناتالأمنية إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، وتحل المعاملاتالاقتصادية محل التحالفات القيمية. وبينما قد تضمن هذهالصفقات استقرارًا مؤقتًا، إلا أنها تفتح الباب أمام تحدياتاستراتيجية على المدى البعيد، تتعلق بتآكل القرار الوطنيوفقدان القدرة على رسم السياسات بعيدًا عن الإملاءاتالخارجية. ويظل سؤال الاستقلالية الفعلية للدول الخليجيةمطروحًا بقوة في ظل استمرار مثل هذا النمط من العلاقات،في وقت يتطلب فيه الإقليم قدرًا أكبر من التوازن والرؤيةالاستراتيجية المستقلة.