تشير السيرة الشخصية للرئيس الأميركي القديم-الجديد، دونالد ترامب الى انه “ دخل السباق الرئاسي لعام 2016 بصفته جمهوريًا، وانتُخب في انتصار مفاجئ على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بينما خسر التصويت الشعبي، ليصبح أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية لم يخدم سابقا في العسكرية وليس له أي نشاط سياسي سابق”.
وتشير كذلك الى العديد من محطات حياته العملية، وسلوكياته المثيرة للجدل، وتقلباته السياسية والاجتماعية اللافتة، والتي تجعل المراقب والمتابع يتأمل كثيرا ويتوقف طويلا، علّه يحصل على اجابه لتساؤل جوهري مهم.. الا وهو “كيف اصبح هذا الشخص البعيد عن السياسة والعسكر، وصاحب المزاج المتقلب والفوضوي رئيسا لاكبر دولة بالعالم؟”.
قد يكون من الصعب بمكان التوصل الى إجابة وافية وشافية ومقنعة لتساؤل من هذا القبيل، بيد ان الملفت في الامر، هو ان ترامب اسقط كل صفاته الشخصية الغريبة على سياساته وقراراته ومواقفه التي تبناها واتخذها بعد وصوله الى البيت الأبيض عام 2017، لتكون ولايته الرئاسية التي امتدت حتى عام 2021، الأكثر اضطرابا وتخبطا، رغم ان البعض يرى انه-أي ترامب-حقق إنجازات ملموسة على الصعيد الداخلي، اوجدت قدرا من الرضا والقبول لدى نسبة لايستهان بها من الشعب الأميركي، في ذات الوقت الذي يرى الكثيرون ان سياسات ترامب الشعبوية والفوضوية، أحدثت انقسامات مجتمعية حادة في المجتمع الأميركي، بحيث انها دفعت الى السطح الكثير من القيم والاخلاقيات والسلوكيات المنحرفة البعيدة عن دائرة المشاهدة والرصد والتشخيص سابقا.
لهذه الأسباب وغيرها، لم يفلح ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية، بعد ان مني بخسارة واضحة امام منافسه الديمقراطي جو بايدن. وكما وصل ترامب للرئاسة بصورة مفاجئة وغريبة، وربما غير محسوبة، فإن مغادرته البيت الأبيض بعد خسارته السباق الرئاسي، لم تجري بسلاسة، بل انها ترافقت مع مظاهر عنف وفوضى غير مسبوقة طالت واحدة من اعلى مؤسسات الدولة، الاميركية الا وهو مبنى الكونجرس (The Capitol Hall)، حيث طاله التخريب والتدمير والسلب والنهب، وبدت الصورة هناك، كما لو ان الحدث في دولة من دول العالم الثالث، لم تعرف الديمقراطية لها طريقا بعد، وليس في الولايات المتحدة الأميركية، التي تعد في طليعة الديمقراطيات الغربية الرائدة بعالم اليوم.
وقد خلفت مظاهر العنف والفوضى تلك انطباعات سلبية للغاية عن منهجية ترامب وشخصيته الجدلية، واشرت الى ان مصيره من الممكن ان ينتهي به خلف القضبان، في حال لم تخضع السياقات والإجراءات القضائية والقانونية للتسييس والمساومات والضغوطات.
ومثلما وصل الى البيت الأبيض في عام 2017 بطريقة غير متوقعة، ومثلما خرج منه في عام 2021 في ظل تصعيد وتأزيم وتخطيط لخلط الأوراق، فإنه عاد -او سيعود-رئيسا لاربعة أعوام، بعدما كانت مجمل استطلاعات الرأي والاستبيانات والتحليلات والقراءات الاستشرافية، ترجح كفة منافسته الديمقراطية كامالا هاريس.
فوز الجمهوري الشعبوي ترامب، بقدر ما يعيد طرح ذات التساؤلات السابقة، ومعها تساؤلات أخرى، فأنه يثير الكثير من المخاوف والهواجس حول توجهات الرئيس الأميركي القديم-الجديد، ومسارات سياساته الخارجية بالدرجة الأساس، لاسيما في خضم أزمات شائكة ومعقدة على الصعيدن الإقليمي والعالمي، كالحرب في قطاع غزة بين الفلسطينيين والصهاينة، ومتغيرات الاوضاع في سوريا وتعقيداتها العويصة، والحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها السلبية على اوروبا خصوصا، والعالم على وجه العموم، ناهيك عن الصراع والتنافس الاقتصادي المحتدم بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، دون ان نتجاهل او نقفز على الملف النووي الإيراني، ومعه مشاريع التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي، التي تعثرت الى حد كبير جراء اندلاع حرب غزة في السابع من تشرين الأول-أكتوبر 2023.
اذا قرر ترامب، ان يسير على نفس النهج الذي سار عليه خلال ولايته الرئاسية الأولى، فمما لاشك فيه ان الأمور سوف تزداد تعقيد وسوءا، وكل الملفات ستشهد المزيد من التشابك والتداخل والارتباك.
مراعاة تل ابيب على حساب الفلسطينيين والعرب، لن تفضي الى التهدئة ان لم يكن العكس، ومحاولة تفعيل “التطبيع” وإعادة الحياة اليه، لن تكون ذي جدوى وسط مشاهد الاجرام والدمار الهائل في غزة، وخيار الضغوط القصوى على ايران، لن تنفع مستقبلا مثلما لم تنفع سابقا، وبديلها الأفضل والانجع هو الحوار البناء الذي يستند على قاعدة ضمان مصالح كل الأطراف المعنية.
حتى الان، لا تصريحات ترامب وتلويحاته وتهديداته، ولا من اختارهم ليكونوا في المواقع المتقدمة في فريقه الحكومي، ولا رؤاه وتصوراته عن اليات التعاطي مع الازمات القائمة، تبعث على التفاؤل، ولو بالحد الأدنى.
يقول البعض، ان ترامب “التاجر”، يبحث عن صفقات رابحة، ولايسعى الى حروب خاسرة، وهو لايريد ان ينفق على الاخرين لحمايتهم وضمان امنهم، وانما يريد من هؤلاء ان يدفعوا له مقابل ذلك.
قد يكون ذلك صحيحا، لكن في عالم السياسة بمساراته المتشعبة، غالبا ما تسبق الصفقات الرابحة، خسائر واستحقاقات كبيرة، ربما تفوق بالحسابات الرقمية، المكاسب والارباح.
وفي كل الأحوال، فإن ترامب “الشعبوي”، أيا تكن توجهاته وسياساته ومواقفه، سيشغل العالم لاربعة أعوام قادمة، لان القضية في مجمل ابعادها وجوانبها، ليست منحصرة بترامب والولايات المتحدة الأميركية فقط، وانما هي أوسع واشمل من ذلك بكثير، ويكفي التوقف عند الذين كانوا يبشرون ويتحمسون كثيرا لعودة ترامب من ساسة اليمين الغربي المتطرف، ودعاة الحروب في تل ابيب. وكما قال احد الباحثين والاكاديميين في السياسيات الاميركية، “إن صعود ترامب وعودته للسلطة مرة أخرى، رغم ما يتعرض له من محاكمات واتهامات جنائية لم يتعرض لها رئيس أميركي من قبل، هو جزء من تيار عالمي يزداد ويتصاعد طيلة السنوات الماضية، وهو تيار اليمين الشعبوي، الذي وصل للسلطة في أكثر من بلد وقارة، سواء في أوروبا أو آسيا أو أميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط. وهو صعود يجعل “الاستثناء الأميركي” يبدو كما لو كان، هذه المرَّة، أمرًا عاديًا”!.