23 ديسمبر، 2024 1:49 م

تراجيديا الألم المتوارث في قصص ( بائع الضحك )

تراجيديا الألم المتوارث في قصص ( بائع الضحك )

( بائع الضحك ) مجموعة قصصية قصيرة جدا للقاص إبراهيم سبتي .. تستقي من الضحك ألاما في بعض الأحيان وألما في أحيان أخرى .
المجموعة تحتوي على خمسين قصة قصيرة جدا ، ابتدأها القاص بدراستين توضيحيتين  عن مفهوم هذا اللون من ألوان القص الذي وصفه القاص في  مقالته الأولى الموسومة (محنة القصة القصيرة )  بأنه ابتدأ في عام 1932 عندما أصدرت ناتالي ساروت كتابها القصصي  ( انفعالات ) الذي انتبه إليه كتاب القصة في كونه فنا جديدا يشبه فن القصة القصيرة ولكنه يختلف عنه في بنائه وشكله ، أطلق عليه فن ( القصة القصيرة جدا ) .
وبعد استعراض تاريخي لمجمل الكثير من هذا اللون من القصة في العراق والذي ازدهر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حسب الناقد باسم عبد الحميد حمودي الذي أشار إليه القاص في مقدمته ، وعليه فأنه يؤكد أن هذا اللون من القص أصبح معبرا جدا عن واقع الحياة السريعة وانه ليس سهلا كما يتصور البعض .
أقول بعيدا عما ارتآه   القاص في مقدمته إن القصة القصيرة جدا هي ومضة شعرية قصصية خاطفة يختزل فيها القاص مشاعره وأحاسيسه ويكثف مقدرته الكتابية فيها حد الإعلان عن الومضة التي تختزل القصة القصيرة جدا  فيها تفاصيل إنشاء القصة القصيرة ليكون في القصة القصيرة جدا عنصرين مهمين لجعلها متكاملة وهما عنصري الصدمة ووحدة الموضوع  .
احتوت مجموعة إبراهيم سبتي ( بائع الضحك ) على خمسين قصة قصيرة جدا وهي على التوالي ( بائع الضحك ، تيتو ، الرفيع ، فتاة القيثارة ، سرير الأفعى ، صوت قريب جدا ، بدين ،  بقايا ، سيف ، الطرائد ، فأس ، رمح ، خنجر مسموم ، أهل البلاد ، الطائر ، حجارة البلاد ، بر وبئر ، سيقان ، الطيور ، كلينت أيستورد ، كارمن ، زلزال ، أرض منزوعة الظلال ، مظلات ، حذاء ، اسماك ، حفرة ، راكض ، سباحون ، قاص ، موبي ديك ، شجر وتماثيل ، ذئاب ، الحياة بعد الحرب ، المهذرف ، بذخ التورد ، كتاب ، حاشي منسم ، نزهت الضغيب ، جعيتا  ، جواد سليم ، حصان هائج ، ملجأ حصين ، عطر ، موت المؤلف ، خضرة الحرب ، سكين ، مكتبة عامة ، تيمورلنك ) لقد تراوحت هذه القصص الخمسين بين الدهشة والصدمة والتساؤل ؟
القاص يبحث في مجمل تفاصيل الحياة المعقدة الشائكة في أسئلة متلاحقة يصعب على المتلقي فك مغاليقها من الوهلة الأولى .. انه من جيل الأدباء الذين أوجعتهم الحروب والمآسي ، فكان عليه عندما اختار هذا اللون من القص أن يحفز مشاعره وأحاسيسه ورؤاه الباحثة عن التفصيل والتفاصيل إلى جمل منتقاة متراصة في المعنى والتأثير في آن واحد ، وقد تمكن القاص إبراهيم سبتي في أغلب قصص مجموعته هذه على الرغم من تفاوت المحتوى والرمز والأسلوب فيها أن يصل إلى الناحية التي تثير القارئ وتدفعه إلى التفكير في القصة وفك شفراتها بعد أكثر من قراءة واحدة لكل منها .
في قصته الأولى ( بائع الضحك ) التي حملت المجموعة اسمها ، كان المكان فيها موقفا للباص في شارع مهم والشخص المقرفص في المكان توحي هيأته بأنه مهووس بالحركة وإطلاق الضحكات حتى دونما سبب .
في هذه القصة القصيرة جدا محورين أساسيين تناميا مع بعضهما كظلين إلى حد الذروة ، وعندها افترقا كعدوين .. المحور الأول بائع الضحك الذي ينفخ أكياسه بالضحكات ليشتريها منه المحور الثاني وهم المارة وزبائن المقهى التي لم يشر القاص إلى وجودها الذي اعتبره مفترضا كلون من ألوان التغريب .
البائع يملأ الأكياس بالضحكات والمارة يشترونها .. انسجام في غاية الدقة والحب المتبادل  ولكن المطر ليوم واحد يمنع بائع الضحك عن الخروج وعليه فأن الزبائن لم يتمكنوا من الحصول على ضحكاتهم لذا فأن المعادلة تنقلب رأسا على عقب ويتحول الحب إلى كراهية  كما في وصية ميكافيلي في كتابه المعروف ( الأمير ) وهو ينصح الحاكم أو المتسلط أو الأمير ( اذا أعطيت وأكرمت أحدا ما فأن عليك أن تعطيه دائما لتكسب مودته لأنه في اللحظة التي تنقطع فيها هباتك إليه سيتحول إلى ألد أعدائك لديك ) ولا أقصد مطلقا أن يكون القاص قد تأثر بمقولة ميكافيلي تلك ، وإنما القصة الجيدة هي  من تصل إلى مستوى التأويل والتحليل وهذا ما وصلت إليه قصة بائع الضحك حسبما أعتقد .
أما في قصته الأخرى ( حفرة ) فان القاص أشار بذات الطريقة المشفرة إلى الألم المحتبس في الصدور عند اطمار الحقيقة وعدم اقرارا الحق .
ربما سيكون هذا الطرح مباشرا في قصة رمزية يصعب على القارئ أن بفك رموزها من خلال القراءة الأولى ، ولكنني استطعت أن أميز ما يرمي إليه القاص ، وحتى لو كان ما التقطته يتقاطع مع ما يريده هو في قصته هذه ، فأن القصة الرمزية تعطي مجالا أوسع للتأويل في فك شفراتها للوصول إلى مايريده القاص من تأويل لقصته .
إن السياط التي كانت تريد أن تجبر الحصان تجبر الحصان على الحركة  هي ذات السياط التي تدفع إلى الجور والقهر والتعسف ، حيث السوط هو دالة مباشرة على الألم والحرمان علما أن الجسد المنتهك في القصة ليس بشريا وإنما حيوانا وهو الحصان الذي غالبا ما يرمز إلى الفحولة أو الرجولة  ، ومن هنا كان اختيار القاص موفقا في كون الذي حرن هو الحصان وليس الحمار كون الحمار عنيدا وعندما يحرن يستحق الضرب لأنه لم يفكر لماذا
حرن ؟
الذي رفض الانصياع إلى التحرك من مكانه هو الحصان وليس الحمار ومن هنا انقلبت موازين الفرح والإعجاب والانتصار لدى من فكروا أن يحفروا حفرة من تحته حتى إذا ما اكتملت سقط فيها ليهيلوا بالتراب عليه .. قصة موفقة لرمز إنساني رائع ..
في أغلب هذه القصص القصيرة جدا الرمز هو الطاغي وعليه عندما تكون الجمل قليلة والموضوع كبير وكبير جدا فعلى القاص أن يكون دقيقا في اختيار مفرداته لأن كل منها هي دالة لا يمكن الاستغناء عنها في الوصول إلى مدلولات القاص .. وهذا ما سنراه واضحا في قصة سيقان التي سأنقلها كاملة لقصرها ومن بعد أشير إلى المفردات التي لو استبدلت بمفردات أخرى لكانت القصة قد ارتقت إلى مقام التأويل ولكنها لم تصل إلى ذلك  المستوى حسبما أعتقد وهذا ما ستقوله قصة ( سيقان ) القصيرة جدا والتي هي كما يلي …
 ( البذرة النابتة في جوف التراب .. تمددت واستطالت وانتفضت مندفعة نحو الأعلى .. الساق الهائجة اندفعت بصرامة فلامست السحب ، سيقان المكان المجاورة تمايلت بعنف في أماكنها تحاول الصعود .. كما النبتة )
 الفكرة واضحة والدلالة تشير إلى من  يسهر ويتعب في الوصول إلى الطموح ، ولكن الذين لا يتعبون يراوحون في أماكنهم في الوصول إلى ما وصل إليه ..  لو كانت نهاية القصة ليس ( كما النبتة  وإنما كما ساق البذرة النابتة لأن الذي استطال ووصل إلى السحب هو الساق الذي له في الأرض بذرة نابتة ، أما سيقان المكان الأخرى فليست لها بذور نابتة ..)
محاولات جميلة وممتعة في قصص رمزية لم تعط نفسها للقارئ منذ الوهلة الأولى ولكنها تدفع به إلى التركيز وإعادة القراءة ليصل فيها إلى فك شفراتها والاستمتاع بقراءتها في آن واحد .. وشكرا للقاص إبراهيم سبتي الذي أمتعنا وحرك دوافع المتابعة فينا في قصص وصلت إلى مستوى التأويل حسبما أعتقد .
 
[email protected]