بعد ان رأيت معاول مجانين داعش تحطم بالأثر الآشوري .سكنتي تراجيديا الدمعة على كل هذا الاهمال والحزن الذي سكن منحوتات العصور التي اتينا منها كأحفاد . والتي نهبت بشراسة من قبل قناصل اوربا والمنقبين وامينة اول متحف عراقي البريطانية ( مسس بيل ) وأخرى تلك التراجيديا هو النهب القاسي والمقصود الذي تعرض له المتحف العراقي الواقع في علاوي الحلة في نبسان 2003.
وحين يفترض بك كمواطن أن تفتش عن خيار بين اثنين لنهاية العمر فحتما تفكر في وطن تستقر فيه رؤاك وتنشغل بصباحات عصافيره وهي تزقزق فوق رأسك بذكريات ما مر وذهب . فالحاجة الى وطن لا تستقر مع الحياة ومصائرها ، ففي موتنا ايضا ينبغي أن يكون هناك وطن .
ولهذا تجدني أتألم حزناً حين اقرأ مثلا كتاب للمنقب الآثاري ( ماكس مالوان ) وهو يتحدث بفخر عن جهد البعثة الاثارية التي ارسلتها جامعة بنسلفانيا في 1920 برئاسة العلامة الآثاري ( ليوناردو وولي ) في نبش أقبية مقبرة آور المقدسة والتي ضمت رفاة وكنوز أمراء وملوك سلالة أور الثالثة والتي حملت بالكامل على ظهر دواب ومراكب لتصل الى متاحف أوربا حتى مع الهياكل العظمية لأولئك الملوك والامراء الذين صنعوا مجد أور وحضارتها ومنهم الملك المشرع اور ــ نمو باني الزقورة والأميرة بو ــ آبي ( شبعاد ) عازفة القيثارة الشهيرة ، وغيرهم من ملوك ومشرعين وكهنة وأمراء وقادة جيش .
مرات أتساءل عن القيمة الأخلاقية التي تفسر أن يبقى هؤلاء منتصبون في واجهات الزجاج في متاحف أوربا وامريكا دون أن يعودوا الى اللحد الطبيعي لكل إنسان ويدفنوا في أوطانهم حسب القياس الاخلاقي والديني لنهاية البشر كما جاء في الديانات والشرائع . لكن لا احد يطلق مثل هذه الرؤية الشجاعة ويصرخ في وجه اليونسكو مثلا نداء عودة هذه الهياكل والرفاة لتعود الى أقبيتها كما يحدده الشرع والأخلاق .
هذا على مستوى رؤية الأثر . تقابلها مستويات أخرى في موت العراقيين خارج حدود أوطانهم ويدفنون هناك في غربة النأي بسبب الحروب والأنظمة وحرية الرأي والخوف من الموت بمعمعة الجندية .
وهكذا توزعت قبور العراقيين بين شتات أمكنة الأرض ومنها ماهو يضم رفاتاً لأعلام عالية كما في مقبرة الغرباء في السيدة زينب حيث يرقد الجواهري ومصطفى جمال الدين وهادي العلوي وغيرهم من أولئك الذين أدركتهم منية العمر على وسادة المنفى .
الآن ، والموت العراقي لازال يستعر مثل نار لاتخمد يتكرر موت الهجرة والمنفى ، فيما يعلن كل يوم من مشارح الطب العدلي عن دفن جثث مغدورة لم يأت أهلها ليتعرفوا عليها .
وهكذا تتعدد الأسباب والموت واحد ..
يتعدد الألم العراقي والنهاية واحدة . مشهد يتكرر في دوامة عنف لم ينتهي اوارها ، وأتمناه أن يقف يوما لندرك الموت بطبيعته المعروفة ، المقترنة بعمر او بطارئ آخر غير الرصاصة الغادرة التي تطلق على الرأس من الخلف ، وغير الموت الذي ترتعش فيه أجفانك للمرة الاخيرة في مهجرك أو منفاك وغربتك .
لهذا اتمنى لكل اثارنا ان تعود من منافيها في متاحف العالم لتحضن اغفاءة ليل اساطير المدن الاثرية من النمرود وبابل وحتى اور ومملكة ميسان .
كما اتمنى لبلادي أن تكون وطناً لرغبة البقاء والثبات وتأسيس الحلم . وطن لا تؤرقه النعرة المذهبية والطائفية ولايخدعه مستعمر . وسوية مع ابناءه يمسك ضوء الشمس ويصنع من ضوئها أرجوحة لعيد يذكرنا بكل أزمنتنا الحلوة ..وليتها تعود ..