23 ديسمبر، 2024 3:17 م

تذبذب اسعار النفط وبدائل دعم الاقتصاد

تذبذب اسعار النفط وبدائل دعم الاقتصاد

مع تصدير أول برميل للنفط من أرضنا العربية المعطاء واستثمار دولاراته كدخل قومي صارت هذه النعمة تمثل المصدر الأول والرئيس لموارد الدولة واعداد موازنتها العمومية وصارت الحقول الاخرى، الزراعية والصناعية والتجارية والضريبية والسياحية تأتي بمراتب متفاوتة ولا تحظى إلا بالقدر القليل من اهتمام الحكومات ويوما بعد آخر أخذ يضعف دورها وربما أصاب بعضها الركود أو الاضمحلال وخاصة بعد موجات ارتفاع سعر النفط ابان بدايات ثمانينات القرن الماضي واستمر في تصاعده حتى بلغ 130 دولار للبرميل الواحد ثم عاد منخفظا ليصل الى 80دولار هذا الشهر . وبغض النظر عن أسباب ومقاصد وأهداف هذه الزيادة في الطلب المصحوبة بارتفاع جنوني في الأسعار والتي انسحبت على ارتفاع أسعار جميع المنتجات الصناعية والزراعية والخدمية سواءا في البلدان المصدرة للنفط أو البلدان المستوردة له والتي ستستمر طرديا مع تصاعد وتيرة الانتاج والتنمية الانفجارية التي تشهدها دول غير الولايات المتحدة واوربا مثل الصين واليابان وكوريا وماليزيا وما تتطلبه خطط تلك الدول من الوصول الى ذروة الانتاج العالمي وما يصاحب تنفيذ برامجها من طلب مستمر ومتزايد على النفط ومع حاجة الدول المصدرة المنتجة للمردود المالي الذي توفره عمليات تصدير كميات كبيرة من النفط،ثم انخفاظ بشكل مفاجيئ وباسعار متدنية  ،عليه لا بد ان تضع هذه الدول في حساباتها ان هذه المادة قابلة للنضوب والنفاد في وقت معين،وان اسعارها غير ثابتة ومن هنا يتوجب على حكوماتها الاستعانة بالخبرات الخلاقة المبدعة لوضع خطط مقابلة بغية اقامة مشاريع ستراتيجية اعتمادا على استثمار جزء من المردود المالي لصادرات النفط كي تكون هذه المشاريع رصيدا مستقبليا وظهيرا قويا عند قلة وانخفاض انتاج النفط. وقد لوحظ قيام بعض الدول المنتجة للنفط- الدول غير الزراعية- بتنشيط الحقول التجارية بحيث صارت مراكز تجارية عالمية حيث سيحقق لها هذا النشاط ارباحا سنوية هائلة تضاهي المردود المالي لانتاج النفط.
وفي عراقنا الحبيب- ومنذ انتاج وتصدير النفط من اول بئر أكتشف فيه- وعلى تعاقب النظم والحكومات، ظل النفط يشكل العمود الفقري لاقتصادياته وتغطية نفقاته وتمويل مشاريعه، وانصب جل اهتمام الحكومات المتعاقبة على استخراج المزيد منه وتصديره دون التفكير بانعاش الحقول الاخرى التي تمثل معينا لا ينضب وخاصة الزراعة، حيث حولت السلطة السابقة واردات النفط الى اكداس عتاد وحاويات T.N.T ومشاجب أسلحة وتبنت سياسة عسكرة الشعب من فلاحين وعمال وحرفيين وتربويين ومثقفين فأماتت ما تبقى من حقول الرز والحنطة والشعير واحرقت بساتين النخيل والفواكه والخضار. واغلقت مصانع واعدة لبعض المنتجات حتى صار العراق مستوردا لكل شيء وظل النفط مصدر التمويل الوحيد بلا ناصر ولا معين. ولم تتغير الحال بعد سقوط السلطة السابقة وإن تغيرت الأهداف والتوجهات بل ازداد الاعتماد على واردات النفط اثر التوقف التام للمنتجات الزراعية والصناعية المحلية بسبب الانفتاح الشامل للاستيراد غير المحدود وغير المقنن وتوقف ايرادات الضرائب والسياحة نتيجة الفوضى واضطراب الأوضاع الأمنية التي صاحبت عملية اسقاط السلطة السابقة واضطرار الحكومة الجديدة لتكثيف الجهود نحو مكافحة الارهاب والفساد المالي والاداري ومحاولة اعادة الإستقرار والبدء بعملية الاعمار.
صحيح ان عملية البناء والاعمار واعادة ترتيب مفاصل الدولة بعد التخلص من تداعيات وتراكمات الفترة السابقة ومحاولة سد حاجة المواطن العراقي بانجاز المشاريع الخدمية وتوفير مستلزمات حياته اليومية تحتاج الى المزيد من مليارات الدولارات لكن هذا لا يعني إهمال الأركان الأساسية الاخرى في توفير الموارد المالية خاصة الزراعة التي تشكل عصب الأمن الغذائي القومي لأي بلد حتى في البلدان التي تمتاز بالانتاج الصناعي المتقدم وتعتمد اعتمادا كليا على صادراتها من الصناعات المختلفة، اذ تقوم أنظمة تلك البلدان بتقديم الدعم اللامتناهي للقطاع الزراعي لديمومة انتاجه واستمراره في العطاء جنبا الى جنب مع القطاع الصناعي والخدمي والسياحي ليتشكل بعد ذلك التوازن الاقتصادي التام في كافة المفاصل الحيوية في البلد.
ومن هنا يتوجب على المسؤولين المبادرة الفورية بالتوجه الى اقامة المشاريع الزراعية والتي تحتاج الى دعم كلف الانتاج اولا وذلك كون معظم الأراضي الحالية صالحة للزراعة وكذلك توفر المياه في الكثير من المناطق الزراعية ناهيك عن وفرة الأيادي العاملة في حقل الزراعة. ان الأمر يحتاج اولا الى دعم أسعار البذور والأسمدة والوقود والنقل وتوفيرها بشكل مستمر على ان يصاحبها اعادة عمل مصانع التعليب الغذائية المتوقفة وانشاء مصانع جديدة لهذا الغرض. مع متابعة مستمرة لعملية استصلاح الأراضي واقامة مشاريع الري اللازمة، إذ بامكان العراق الذي ينعم بتربة خصبة ومياه عذبة ومناخ يناسب معظم المحاصيل الزراعية ان يغطي المنطقة العربية بانتاجه الزراعي ويوفر الاكتفاء الذاتي لمواطنيه ويكون الرصيد الأضمن قبل رصيد النفط المهدد بالنضوب.
ان مسألة التطلع الى وضع خطط ستراتيجية لقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة مهمة صعبة وتحد طموح لكنها حق مشروع وتحقيقه ليس مستحيلا ما دامت كل مقومات وجوده متوفرة: فالموازنة العمومية في تزايد مستمر وانخفاض مستمر بسبب عدم استقرار اسعار النفط ، واليد العاملة المعطلة تضم الملايين من الطاقات الزراعية والصناعية والحرفية وعلى مختلف المستويات، والتربة الخصبة بمساحة ثلاث أو اربع دول متوسطية، والنهران العظيمان بفروعهما وروافدهما يسقيان العراق من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه، والمعادن الثمينة بوفرة رماله وحصاه، وارثه الحضاري وآثاره الموغلة في عمق التأريخ ورموز العالم الدينية والتأريخية ترسم خارطة العراق السياحية، وعقول مفكري العراق وعلمائه ومبدعيه ساهمت في الكثير من الإنجازات الحضارية الحديثة في العالم.
إذن لم يتبق إلا الارادة الصادقة، والنوايا المخلصة والتخطيط السليم، والادارة الكفوءة، والايادي الأمينة.. وكل هذه المستلزمات نزعات انسانية “مقدور عليها” تخضع لذات الانسان نفسه.. وما هي على غيارى العراق واخياره بالأمر الغريب بل هي خيارهم الوحيد.خاصة وان اسعار النفط في تذبذب مستمر ولا تستقر على حال فبعد ان بلغت اكثر من 130 دولار للبريل الواحد قبل شهرين هاهي تتراجع بوتيرة سريعة حتى وصلت 80 دولار للبرميل الواحد والقادم مجهول .