ينشط زملاء عديدون من الأطباء العراقيين في تحقيق وتوثيق ونشر العديد من البحوث والتراجم والصور التي توثق الإنجازات الطبية التي تحققت في العراق الحديث أواخر الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى امتدادا إلى تأسيس الدولة الحديثة والحكم الملكي والجمهوري ولغاية حدوث نكبة الغزو واحتلال العراق في نيسان 2003 . وبالرغم من تقلب أحوال النظم السياسية التي تعاقبت خلال فترة القرن المنصرم الماضي ، استمرت مراحل بناء الصرح الطبي العراقي المعاصر بالتكامل ولم تتوقف خطوات البناء والديمومة في نهضته بالرغم من ظروف الحروب والوبائيات والفيضانات والصراعات السياسية التي شهدها العراق ، كما يجد القارئ أن معظم التوثيقيين والباحثين وهم ينشرون بحوثهم ومذكراتهم في أعماق هذه المسيرة الطبية في العراق يعبرون بفخر واعتزاز خلال هذه الفترة عن بناء وتخطيط وعزم متواصل ومتكامل لتحقيق ما تم أنجازه خلالها . ولكي نكون منصفين تأريخيا يجد القارئ أن بناء مؤسسات الطب والصحة في العراق مهنيا وأكاديميا بالرغم من أنه تم على أيدي الأطباء والمهارات التي جذبتها الصراعات العسكرية في الساحة العراقية عثمانية وانكليزية ، لكنها جميعا ما كان لها أن تنجز لولا وجود الإرادة العراقية والتصميم الوطني للكفاءات العراقية التي صممت على العودة إبان تأسيس الدولة العراقية وتشجيع وتبني الملوك والرؤساء والساسة لأفكار وطروحات الاطباء والمهنيين .
تأسيس المستشفيات والمستوصفات والكليات الطبية والمراكز التخصصية والتعليمية والمهنية وإرسال البعثات وزمالات البحث والتدريب واستقبال الوفود والتدريسيين قرارات كان لها ايجابيات كبيرة في بناء الصرح الطبي المعاصر لكنها تحسب جميعا قرارات سياسية للدولة لم تنجز من فراغ بل بتصميم وعزم من الإدارات الطبية القادرة على إقناع الساسة ولا يزال التاريخ يوثق قرار تاسيس الكلية الطبية الملكية العراقية ومن كان مصرا عليه ومن وقف دون انجازه وأخر إصداره . وعلى سبيل المثال نشر الأخ الدكتور علي صادق مؤخرا بحثا عن الطبيب الإنكليزي سندرسن باشا ودوره الإيجابي والحثيث للتأسيس والبناء لعمليتي التعليم الطبي والطب المهني في العراق ولم يسجل لهذا الطبيب الأجنبي الذي جاء مع الاحتلال البريطاني إلا صفحات مضيئة في الإسهام المثمر الرائع في دعم التقدم العلمي والطبي بكل نواحيه وبظمنها التمريض والصيدله والتقنية وانتزاع الاعتراف بشهادات الكليات الطبية من قبل الكليات والمعاهد العلمية البريطانية ، وكذا الحال لبقية الأساتذة والأطباء الذين خدموا في الكلية الطبية والمعاهد والمؤسسات الصحية . كما أن هناك مؤسسات حكومية وإنسانية وعلمية أجنبية وعراقية كان لها دورُ كبير في مسيرة التقدم الطبي مثل كولبنكيان والصحة الدولية واليونسيف واليونسكو والموانئ والنفط والجيش والسكك وجمعيات الهلال الأحمر والأطفال والتدرن .
الغريب العجيب أن احتلال العراق عام 2003 والذي قادته أميركا وبريطانيا ودول أخرى تعاونت معهما وبالتوافق مع ما سميَّ بالمعارضة العراقية التي جاءت بالاحتلال والتي كانت معظم قيادتها من الأطباء وهم عراقيون مهجنون (مزدوجي الجنسية) بدلا من أن يقدموا إنجازات طبية وصحية ملموسة للعراقيين وحالهم الصحية المهددة ، بدلا من ذلك فان الاحتلال لم يترك إنجازا طبيا وصحيا على مرور عقود الزمن السالفة إلا ودمره وعبث فيه وهم لم يكونوا بذلك غافلين او مستغفلين بل كانوا هادفين ومتقصدين . ولذلك فإن المقارنة بين غزو واحتلال العراق عام 2003 وغزوات المحتلين الأخرى وحتى تلك الأشد منها تدميرا كالغزو المغولي فيما يخص تدمير البنية الطبية والصحية غير منصفة ، حيث لم يسجل التاريخ ان هولاكو عند قدومه وحكمه قد استنزف وقتل وهجر الأطباء بشكل خاص ومتعمد ومستهدف !. ولكي نستذكر ونستعرض ماذا فعل الاحتلال بالمؤسسة الطبية وتدمير الوضع الصحي في العراق ونحن نعيش الذكرى العاشرة للمحنة سأورد بإيجاز حصاد هذا الدمار وبإمكان الباحث التوسع بالعودة الى مقالاتي المنشورة تفصيليا حولها :
1. كان فرض الحصار الأثيم على العراق لفترة 12 عام أكبر جريمة انسانية بحق العراقيين فقد تسبب في موت أكثر من مليون طفل عراقي وزيادة نسب موت الأطفال حديثي الولادة ودون الخامسة ومنع الشركات من توريد الأدوية والمستلزمات والنشريات والمجلات الطبية وانقطاع البعثات والإيفادات والتواصل العلمي .
2. نهب وحرق وتدمير المستشفيات الرئيسية والتخصصية منذ الساعات الأولى لدخول قوات الغزو العاصمة والمدن دون الاعتبار لكل ما تحظى به هذه المؤسسات من حصانات ودلالات أثناء الحروب .
3. تشكيل إدارة جديدة لوزارة الصحة أجنبية ومستوردة فرطت بكوادرها الإدارية والمهنية وبقوانينها وهيئاتها ومؤسساتها دون اعتبار للكفاءة والمهارة والعطاء والنزاهة .
4. استخدام الأسلحة والقنابل الفسفورية والكتلوية والعنقودية واليورانيوم المنضب وحتى غير المنضب والمعادن الثقيلة وإشعال الحرائق في البساتين والمدن وإثارة كتل الغاز والغبار الملوث في جميع المواجهات والتعرضات العسكرية برا وجوا .
5. العبث بالسياسة الدوائية الرصينة وبقوائم الدواء المعتمدة وتصنيفها وبهيئة انتقاء الدواء ومعاهد ومختبرات التقييم والفحص والتسجيل وإغراق السوق والمؤسسات والصيدليات والمذاخر والأرصفة والأسواق بأدوية غير رصينة وغير مقيمه ولا حصينة بل مزيفه وملوثه وضاره ونافذ ولغاية اليوم .
6.فتح باب الاستيراد لكل من هب ودب وإلغاء حصريته بوزارة الصحة وكيماديا ومن خلال شركات رصينة .
7. استهداف الأطباء والكوادر الطبية والعلمية بمخطط إرهابي وبكوادر مدربه ومدعومة دوليا وماليا وبحماية وإدارة قوات الاحتلال .
8. تخصيص إدارة الوزارة لتيار طائفي مجيش أسهم في تدمير بنية الوزارة وتصفيات جسدية ومهنية ببدائل غير كفوءة ونزيهة وتفشي الفساد الإداري بشكل فاضح .
9. استشراء الفساد المالي الفاضح فيما يخص عقود التأهيل والبناء وعقود الدواء والتجهيزات الطبية .
10.الإصرار على تخصيص موازنة مالية لوزارة الصحة لم تتجاوز 5% منذ عشرة سنوات وهو لا يفي بمتطلبات الوزارة والتي يفترض ان تكون اكثر من 10% كما هو معمول به في دول الجوار .
11. إهمال الرقابة الصحية ليس فقط على المزاولة المهنية والأدوية والقطاع الطبي العام والخاص ولكم فيما يخص الأمن الغذائي والدوائي .
12. إهمال عناصر وركائز الطب الوقائي كالتلقيحات والمسوح الكشفية والإحصائيات والرقابة الحكومية على المياه والغذاء والصرف الصحي والتعامل مع النفايات و وسائل التخلص منها . مما أدى إلى انتشار الأوبئة والأمراض المعدية والفتاكة وزيادة خطورتها بشكل مفرط .
13. التقصد وعدم الاهتمام والمتابعة في ظاهرة التلوث الإشعاعي والبيئي وما نتج عنه من انتشار وزيادة كارثة السرطانات والأورام والتشوهات الخلقية وإهمال التقارير المثبتة حول خطورة هذه الظاهرة بل وحتى تثبيط دور المنظمات الدولية المختصة بدور فاعل .
14. الإخلال بالعمل ببطاقة صرف الأمراض المزمنة التي كانت تغطي احتياجات المواطنين سواء بالتفعيل أو بأدوية ومفردات البطاقة .
15. فقدان المنهجية التخطيطية والمتابعة لأسبقيات العمل وتقييم الأداء في وزارة الصحة وفقدان التكامل في العمل الوقائي والعلاجي بين وزارة الصحة والوزارات الاخرى ذات العلاقة بخدمات البيئة والبنية التحتية كوزارة العمل والشئون الاجتماعية والكهرباء والتجارة والصناعة والبلديات وغيرها .
16. انتشار ظواهر صحية خطيرة لم تكن معهودة كظاهرة الإدمان على الكحول والأدوية المخدرة وأمراض نقص المناعة والأمراض الجنسية والنفسية والانتحار والاتجار بالنساء وبيع الأطفال والأعضاء .
17. فساد دوائر التفتيش وغلوها في الفساد الإداري والمالي وإضفاء الشرعية+ الإدارية لهذا الفساد .
18. إهمال ظاهرة التهجير والاغتراب للكفاءة الطبية وعدم وجود أي حلول لاحتواء هذه الظاهرة من خلال احتضان العائدين والراغبين في العودة ولذلك تستفحل وتتزايد هذه الظاهرة بحيث لم تعد مقصورة على الكفاءات وانما شملت الخريجين الجدد وطلبة الكليات الطبية .
19. الحالة المزرية في جاهزية وكفاءة وإدارة المستشفيات والمراكز والعيادات الطبية الحكومية والشعبية أدى إلى توسع غير مدروس وغير كفوء وبصيغ تجارية ودوافع ربحية للقطاع الطبي الخاص وبسلوكيات وأسعار غير معهودة او موروثة في الوسط الطبي العريق بالرصانة والثقة .
20. انتشار وتفاقم أمراض ومضاعفات سوء التغذية نقصا أو ترهلا فأمراض الحرمان والجوع والغذاء الفاسد قد تفاقمت حيث يعيش أكثر من 30% دون خط الفقر و25% من العراقيين في حالة نقص الغذاء بنفس الوقت الذي تزداد فيه مضاعفات سوء التغذية كالسمنة والسكري وأمراض القلب وغيرها .
21. تدهور التعليم الطبي والصحي كجزء من حقيقة تدهور التعليم في العراق بشكل ملحوظ ونقص كبير في كوادر الرعاية المركزة والتمريض وكوادر الرعاية للأمومة والطفولة وطب العائلة وتقني الأسنان والتأهيل الطبي والإسعاف الفوري وطب الطوارئ والتخدير والحروق وهي اختصاصات تمريضية وتثقيفية وطبية لا تحظى باهتمام الدولة .
22: عدم إنجاز أي زيادة في السعة السريرية لمستشفيات الدولة وعلى العكس فقد تم تقليص عدد الأسرة المجانية فيها على حساب توسع الأجنحة الخاصة داخل المستشفيات الحكومية .
23. افتقاد التفكير والتخطيط بمشروع للتأمين الصحي المجاني الشامل للنهوض بالطبقات واطئة ومتوسطة الدخل ولموظفي الدولة وهو ما يحسب بأنه ثلمة حقيقية في صلب النظام الصحي العراقي مقارنة بما يحدث ويسري في الأقطار المجاورة .
24. تدهور الصناعة الدوائية العراقية مع أنها كانت السباقة في المنطقة مقارنة بما يحدث في الدول المجاورة .
25. انعدام برامج الثقافة الصحية الممنهجة المدروسة وتدهور الاعلام الصحي والطبي ومحاولة الانسلاخ من انجازات ومسيرة وتراث مسيرة الطب العراقي المعاصرة والتأسيس لثقافة تفتيت هذه المسيرة وقطع صلتها بإرثها ورموزها .
26. غياب الشفافية وعدم كشف الحقائق عن أحداث الحرائق في طوابق الوزارة والمستودعات الطبية واختفاء الأدوية منها واختفاء وكيلي الوزارة المهداوي والصفار واستخدام سيارات الإسعاف لنقل المختطفين وتعذيبهم وقتلهم على سرير العلاج وكشف عصابات اختطاف وقتل وتهجير الأطباء مما أدى الى استمرار هذا المخطط لغاية اليوم .
هذه هي ابرز وسائل دمار الاحتلال وعصاباته وحكوماته وأحزابه وسرِّاقه ومخططاتهم في تحطيم المسيرة الطبية العراقية وتقويض ركائزها وإنجازاتها والتي بعد مرور عشرة سنوات على الاحتلال أصبح بسببها المريض العراقي ضحية جشع العيادات والمستشفيات الخاصة أو لاهفاً أمام السفارات والسفر الى أقطار عديدة للعلاج والاستشفاء من أمراض جمة لا تعد ولا تحصى لم تكن تستوجب السفر والعناء ، كما فقد المريض العراقي ثقته بأطبائه بسبب اختراق منظومة القيم والسلوك المهني الطبي الرفيع في غياب الرقابة والحساب من جهة وبسبب هجرة الأطباء وخطفهم او مقاضاتهم بالفصل والتهديد العشائري كما أصبح العراق موبوءا بالأدوية الفاسدة والمخدرات وتركت فيه الحروب أكثر من مليوني معوق وعاجز وسرقت مخصصات الوزارة ونهبت بعقود فاسدة ومشاريع وهمية تحولت الى عمارات وقصور للسراق خارج العراق في حين تنتشر كفاءاته الطبية والعلمية في كل مستشفيات وجامعات العالم تبحث عن عمل يؤمن لها عيشها وإقامتها بعد ما عانت من ضياع وتهجير .
أساليب ممنهجة ومتعمدة ومستمرة ومتواصلة، استهدفت الإنسان العراقي وصحته وسلامته وقوضت معالم صرح طبي متين كوادراً ومؤسسات وكفاءات ،وأنتجت وضعا صحيا متهرئاً كارثياً غير قادر على رعاية وحفظ صحة الانسان العراقي وسلامته .