“عامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر، لا كوسيلة، بل كغاية”
عمونيال كانط
ماذا يجب على المرء أن يفعل لكي يصير مواطنا فاعلا في مجتمع عادل تحكمه مؤسسات في دولة مدنية؟
صيغة طويلة للسؤال الأصعب في تاريخ السياسة والأخلاق والقانون تستدعي تدخل الاجتماع والاقتصاد ولكن طرحها بهذه الصيغة هو من المطالب التفصيلية التي تقتضي توضيحا فلسفيا حول الغاية والوسيلة.
السلوك البشري على المستوى الفردي وعلى الصعيد الجماعي تحدده من الناحية الأخلاقية مجموعة الأهداف القصوى والغايات النهائية والتي تتوزع بين الخيرات المطلقة والسعادات الكاملة والنعم التامة والمنافع اللاّمشروطة وتقتضي التسلح بالإرادات والتغلب على الشهوات وتغليب الأنفس على الأبدان.
بيد الأمر ينقلب بشكل تام على الصعيد السياسي من حيث هو خارج إطار الضرورة واللوازم المنطقية وضمن وضعيات الحدوث وظروف الصدفة والإمكان ويتطلب اختيار الوسائل الناجعة والأسلحة الحاسمة والأدوات الفتاكة بغية الزيادة في البطش وتكبير دوائر الخوف وإطالة امتلاك السلطة وإلحاق أشد الأذية بالأعداء وبسط نفوذ الدولة على السكان واحتكار العنف من الحكام وإعادة توزيعه بالمراقبة والمعاقبة.
كما تعتمد السياسة على خطة “الغاية تبرر الوسيلة” وتجعل من الردع أفضل الوسائل للوقاية من العصيان وتضطر إلى فرض منطق القوة على حق المجتمع الأهلي طلبا للمنعة والنظام وبحثا عن الأمن والغنيمة.
لا يكترث السياسي بطبيعة الأدوات التي يستعملها في المناورة والمبارزة سعيا منه إلى افتكاك الحكم والسيطرة عليه ولا يهتم بنظافة اليدين ومشروعية الوسائل وخيرية الطرق وإنما يضع نصب أعينه الموقع ويسرع في الخطى إليه ويجعل من خطابه فضاء من أشكال السخرية والتهكم والتهجم والتربص والترصد ويتسلح بالخديعة والمكر والدسيسة والمخاتلة ويستميل المتعاطفين إليه ويوظف الغافلين في اتجاه غرضه.
غير أن طريق العنف والكذب لا يورث غير الأحقاد والكراهية ولا يزرع غير الأشواك والطحالب وكثيرا ما ينقلب السحر على الساحر وتظهر المخاطر من صلب الاستبداد والتغلب وتندلع المنازعات والمناكفات ويتم الكشف عن المؤامرات وتتضح للعيان المفاسد وما أوصلته سياسة التعسف والظلم إلى جانب المهالك.
على هذا الأساس تستدعى الحكمة ويتم الاحتماء بالأخلاق ويقع الاستنجاد بالقيم النبيلة والالتجاء إلى مملكة العدل وتصوب الأنظار نحو الغايات وتصطف الإرادات وراء الحق ويكون الاختيار على المبدأ الأصلح والمراد الأفضل وتتجه الآمال نحو تدبير المدينة وفق مقتضيات الفضيلة وتبسيط السبل بغية درك الخير.
هكذا تنتصر الحرية على التبعية ويدمغ العلم رأس الجهل وتقضي أنوار المعرفة على كهوف الظلام ويحرس التعليم الشعب وتنظم التربية المجتمع وتتكفل الثقافة بزرع المحبة والثقة بدل الرعب والتحجر وينطلق ركب التعمير والبناء ويكف منهج التدمير والاحتراب وتزداد درجة الالتحام بين المواطنين وتظهر الحاجة إلى المساواة بين الجميع أمام القانون وتعم الفائدة بالتناصف من الخير العام على الكل.
لكي يصير المرء مواطنا فاعلا في دولة مدنية حري به أن يشارك مع غيره في بناء مؤسسات عادلة ضمن أفق الحكمة العملية التي تجمع بين الأخلاق الاجتماعية والسياسة الناجعة وأن تكون الوسائل المتبعة من نوع الغايات المستهدفة ولا أن تكون الغايات هي التي تبرر الوسائل احتراما للكرامة البشرية وصونا للسؤدد الحضاري للدولة وابتعادا عن اقتراف المظالم وإمساكا للغرائز عن العدوان على معالم العمران.
على الإنسان تحكيم ضميره تجاه نفسه وإزاء غيره: “واجبات نحو ذاتنا عينها واجب المحافظة على أنفسنا وتحسين أنفسنا وواجبات نحو الغير احترام الغير، وهذا ما يقود الى عدم انزال أي شخص إلى مستوى الوسيلة، حب الغير، وهذا يقودني إلى أن أتبنى بعض أهدافه، واجب عدم الاغتياب وواجب الآباء”[1]، فمن ذا الذي يمنح الإنسان الاحترام الضروري والتقدير اللازم والاعتراف المتبادل غير الإنسان ذاته؟
المرجع:
1- مونيك كانتو – سبيربير وروفين أدجيان – ، الفلسفة الأخلاقية، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2008.