قبل يوم واحد فقط من انعقاد قمة حلف الناتو في “ويلز”، أعلنت “داعش” إعدام صحافي أمريكي ثاني لتشتعل بذلك المنابر السياسية الأمريكية والأوروبية بالتهديد والوعيد بالثأر من “الدولة الإسلامية”، ولتهيء ساحة الرأي العام لما هو قادم: قرار بتشكيل قوة تدخل سريع لحلف الناتو، يحمل رسالة مزدوجة إلى داعش وروسيا معاً.
فالولايات المتحدة باتت مدركة أن “التنظيمات الجهادية” التي ترعرعت في كنفها شبت عن الطوق، وبدأت تتجاوز الخطوط الحمراء لخرائطها السياسية والأمنية ومصالحها الاقتصادية بالمنطقة؛ وإن أي حرب لإعادة تحجيمها تعني ترحيل المشكلة إلى ملاعب حلفائها الاستراتيجيين ما لم تخوضها عبر تحالف دولي معهم.. ففي 22/8/2014م قدر تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية أعداد مقاتلي الدولة الإسلامية في سوريا بـ(50) ألف مقاتل، وفي العراق بـ(70) ألف مقاتل، وأعداد المقاتلين الأجانب بينهم أكثر من (12) ألف مقاتل من (50) بلداً.. وبالتالي فإن عودتهم إلى بلدانهم يمثل خطراً كبيراً- خاصة عندما يتعلق الأمر بدول منشأ الفكر التكفيري كالمملكة العربية السعودية التي تمثل قطباً مؤثراً في الاقتصاديات العالمية.
ومن هنا فإن تشكيل حلف الناتو لقوة التدخل السريع سيعتمد على السعودية ودول الخليج والعراق في تمويل الحرب على الإرهاب، ودعمها استخبارياً. ويعول عليها أيضاً في حشد القوة البشرية القتالية، فيما يستمد مشروعية التدخل العسكري من قرار مجلس الأمن الدولي يوم 15/8/2014م. ويكفل القرار للإرهابيين من دول غربية آلية مناسبة للخروج الآمن من العراق وسوريا.
يمكن إيجاز التداعيات الخطيرة لاتجاهات الحرب في العراق بالآتي:
أولاً- تنطلق رؤية الناتو من موقف سلبي مسبق من شيعة العراق مبني على أساس الخلاف السياسي لدوله من إيران.الأمر الذي يضفي عليه صبغة طائفية “سنية” تصب في المشروع الأمريكي لإقامة إقليم سني في المنطقة الغربية، تلعب فيه تركيا والأردن والسعودية دوراً مؤثراً.. وهو ما يترتب عنه هدراً للسيادة الوطنية العراقية، ومحاولة للإخلال بالتوازنات الإقليمية.
ثانياً- إن تجاهل الغرب للواقع السكاني العراقي: الأغلبية الشيعية، التداخل الجغرافي، الانصهار الاجتماعي، توزيع النشاط الاقتصادي…الخ. قد يزيد الأزمات العراقية تعقيداً، وينسف العديد من مشاريع التوافقات السياسية القائمة، وينأى بالعراق بعيداً عن أي فرص استقرار ممكنة.
ثالثاً- تراهن الولايات المتحدة على تسليح المناطق السنية ومنحها نفوذ سياسي أكبر للعب دور أساسي في الحرب على الإرهاب، غير أنها تكاد تجهل طبيعة الصراعات الداخلية للإقليم السني نفسه. فهناك تنافس في النفوذ العشائري، وآخر بين البعثيين (الصداميين والدوريين)، وتنافس سياسي بين قوى الداخل وقوى مؤتمر الأردن، وتنافس حتى على مستوى التبعية الإقليمية. وكل هذه التناقضات وغيرها ستترجم نفسها بفوضى خلاقة تشعل الساحة السنية وتعزز فرص عودة الجماعات الجهادية مجدداً، في ظل إقصاء نفوذ الدولة المركزية على أساس طائفي.
رابعاً- إن نية الناتو إيجاد آلية تؤمن عودة المسلحين الأجانب إلى بلدانهم قد يتم تخريجها لاحقاً بمسوغ إنشاء مراكز إعادة تأهيل؛ وهو ما يعيد للأذهان سيناريوهات ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر التي أعيد بها تجنيد الإرهابيين أمريكياً لتشكيل التنظيمات الجديدة المعروفة اليوم.. فمن الخطأ الاعتقاد أن أمريكا ستخوض حرباً للقضاء على الإرهاب، بل هي لتحجيمه ضمن الحدود الآمنة، وإعادة هيكلة تنظيماته في نسخة جديدة ذات هدف مرحلي جديد.
يبدو لي أن من أعظم أخطاء العراق أن الخطاب السياسي والإعلامي رسخ في ساحة الرأي العام اعتقاداً بان الحديث عن الإرهاب أو داعش هو حديث عن مجاميع أجنبية غازية وأن الحرب ستكفل طردهم خارج الحدود.. وليس كتنظيم أخطبوطي يمارس ثقافته التكفيرية الإرهابية في شتى أرجاء العراق. وهذا الاعتقاد هو الذي سيؤمن حماية لآلاف العناصر العراقية التي تمارس ثقافتها الداعشية تحت مسميات مختلفة، لتتحول إلى قنبلة موقوتة..
ربما على العراق الخروج من دائرة الحديث عن (الحواضن) إلى الحديث عن تنظيم إرهابي له مشروعه، وهياكله التنظيمية، ومصادره التمويلية، وارتباطاته الدولية، وأنشطته المادية التي تدينه وتجرم كل من يرتبط به أو يسهل مهامه ويتستر على عناصره!