22 ديسمبر، 2024 11:16 م

تداعيات قرار ترامب بشأن وضع مدينة القدس

تداعيات قرار ترامب بشأن وضع مدينة القدس

ما من شخص اساء الى الولايات المتحدة وقيمها ولمبادىء نلسون العظيمة ، وبخاصة الحق في تقرير المصير، مثل رئيسها رولاند ترامب . ولم تشهد الولايات المتحدة عزلة في تاريخها الحديث أكثر من العزلة التي حشرتها فيها قرارات ترامب التي اثارت سخط حلفائها الغربيين اكثر من الألداء الاخرين . ولم ترى الولايات المتحدة توجها عنصريا مؤججا لخطاب الكراهية والتطرف مثل الذي تتبجح به ادارة ترامب منذ أعلان حركة الحقوق المدنية في خمسينيات القرن الماضي بقيادة مارتن لوثر كنغ ولغاية تسلمه رئاسة الولايات المتحدة بداية هذا العام . رئيس ضرب في عرض الحائط ما توافق عليه المجتمع الدولي المتحضر في اتفاقيات دولية تتعلق بقضايا تحسين حياتنا في هذا الكوكب ، ابتداءا من قضايا المناخ مرورا بالبيئة والهجرة . فهو رئيس مهووس بتحدي المجتمع الدولي ، ولا يرى نفسه الا في ممارسة هذا التحدي والعيش في ظل الازمات التي يثيرها ، ولا يرضي غروره الاّ ان تغطي صورته شاشات التلفاز وتنتقل تصريحاته التي لاتنتهي عبر مختلف القنوات الفضائية وغير الفضائية ، وتتداول شطحاته وتحرشاته الخادشة للحياء ، في بعض الاحيان ، عبر وسائل الاعلام الشعبية وغير الشعبية المقروءة والمرئية والمسموعة ، تاركا وزير خارجيته يلهث وراءه بلا حول ولا قوة، فلم نشهد له ظهورا بارزا رغم تفاقم الازمات الاقليمية والدولية كما كان الحال مع اسلافه وزراء الخارجية في الادارات السابقة سواء كانت ديمقراطية او جمهورية . لا ادري كيف يتجرأ رئيس دولة مثل الولايات المتحدة الامريكية ان يصرّح ، ومن دون اي تردد ولأكثر من مرة ، ان على الدول ان تدفع فاتورة الحماية التي تؤمنها لها القوات الامريكية ، فهو بهذا التصريح قد جعل من القوات الامريكية شركة امنية خاصة كالتي تستأجرها الدول او الشركات لحماية ممتلكاتها وافرادها ، أو مجموعة من المرتزقة تعمل لمن يدفع أكثر. فهل يليق بالولايات المتحدة ان تهبط بقواتها المسلحة الى مثل هذا الدرك . ثم متى تحركت الولايات المتحدة لحماية حلفائها خارج اطار مصالحها الحيوية الامنية والسياسية والاقتصادية! باستثناء اسرائيل، فهي حالة خاصة بالنسبة لترامب ، تستأهل ان يواجه في سبيلها المجتمع الدولي حتى ولو ادى ذلك الى عزلة دولية غير مسبوقة جرّاء استخدامه حق النقض لأفشال مشروع قرار تقدمت به مصر العربية بشأن وضع القدس في اجتماع مجلس الامن الدولي بتاريخ 18/12/2017 ، مقابل موافقة جميع الدول الاعضاء الاخرين البالغ عددهم 14 عضوا . علما ان مشروع القرار قد صيغ بشكل متوازن ودقيق ، يؤكد على ان وضع القدس يجب ان يتم حلّه عبر التفاوض ، ويعبّر عن الاسف العميق للقرارات الاخيرة المتعلقة بالقدس ، ( في اشارة الى قرار ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لأسرائيل وتعهد بنقل السفارة الامريكية اليها ، مخالفا بذلك قرارات سابقة لمجلس الامن الدولي والجمعية العامة للآمم المتحدة المتعلقة بوضع القدس الذي يتم التفاوض بشأنه في المرحلة النهائية من المفاوضات بين الفلسطينيين واسرائيل ، كما نصت على ذلك اتفاقيات أوسلو وقرارات مجلس الامن ذات العلاقة ). تجدر الاشارة الى ان مشروع القرار المصري لم يشر نصا الى الولايات المتحدة ولا الى قرار ترامب حول القدس . وعندما قرر مندوب فلسطين في الامم المتحدة الذهاب الى الجمعية العامة لطرح مشروع القرار عليها بعد أفشاله في مجلس الامن ، هدّدت ادارة ترامب بانها ستمنع المساعدات التي تقدمها للدول التي ستصوت لصالح مشروع القرار . لاحظوا معي الابتزاز العلني والصريح والرسمي الذي تقوم به اقوى دولة في العالم تحت ادارة ترامب ، والى اي درك انحدرت ، بعد ان كانت عنوانا يحتذى به للتحرر والديمقراطية . وكانت مبادىء فرانكلين روزفلت بشأن الحريات الاربعة : حرية التعبير وحرية العبادة والتحرر من الجوع والتحرر من الخوف تعتبر حقوقا مكتسبة لجميع البشر وكانت اساسا لأعلان حقوق الانسان عام 1948 . بيد ان هذا التهديد لم يجد نفعا فقد حصد مشروع القرار عند عرضه على الجمعية العامة في 21/12/2017 اغلبية ساحقة بلغت 128 صوتا لصالح القرار وعارضته تسع دول وأمتنعت 35 دولة عن التصويت فكانت عزلة الولايات المتحدة اكبر في الجمعية العامة ، اذ أكد القرار على ان اي قرارات أو اجراءات يقصد بها تغيير طابع مدينة القدس أو وضعها أو تكوينها الديموغرافي ليس لها اثر قانوني وتعد لاغية وباطلة وذلك امتثالا لقرارات مجلس الامن الدولي ذات الصلة . وماذا بعد ! لقد هددت ادارة ترامب بخفض ميزانيتها في الامم المتحدة جراء اعتماد الجمعية العامة لقرار القدس ، في محاولة بائسة لمعاقبة الامم المتحدة . وهنا لابد من وقفة قصيرة لتبيان مساهمات الولايات المتحدة في الامم المتحدة. تبلغ ميزانية الامم المتحدة حوالي 6 مليار و22 مليون دولار سنويا ، مساهمة الولايات المتحدة فيها تبلغ 22% ، اي حوالي 611 مليون دولار ، وتعتبر اكبر نسبة تدفعها دولة عضو في الامم المتحدة . من ناحية اخرى فان عدد الدول الاعضاء في الامم المتحدة يبلغ 193 دولة عضو ، فلو افترضنا ان كل دولة عضو تصرف شهريا على بعثاتها في نيويورك ما معدله 250 الف دولار ، كأجور لمباني مقر البعثة ورئيسها وموظفيها ، اضافة الى رواتب الموظفين و المستخدمين والمصروفات الاخرى المتعلقة بالضيافة والمركبات والامن وغيرها ( بطبيعة الحال هناك دول تصرف اقل من هذا المبلغ ودول اخرى تصرف اضعاف هذا المبلغ ) ،فان مجموع ما تضخه هذه البعثات سنويا من اموال يبلغ في حدود 579 مليون دولار سنويا ، وهذا المبلغ يذهب بشكل او بآخر كواردات في البنوك والاسواق الامريكية ، وهذا يعني من الناحية العملية ان الحكومة الامريكية لاتساهم في ميزانية الامم المتحدة باكثر من 32 مليون دولار سنويا ، وهو حاصل الفرق بين االاشتراك الذي تدفعه سنويا كمصروفات والواردات التي تضخها البعثات. فاذا اضفنا الى ذلك مصروفات الوفود التي تساهم في اجتماعات الجمعية العامة سنويا وهي على مستوى الملوك ورؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية واعضاء الوفود ومرافقيهم وما الى ذلك ، وغيرها من اجتماعات الجمعية العامة ومؤسساتها المستمرة على مدار العام ، فان ما تضخه بعثات الامم المتحدة في الاقتصاد الامريكي يتجاوز ال 579 مليون دولار سنويا ، وربما يتجاوز مساهمة الولايات المتحدة البالغة 611 مليون دولار سنويا . هذا يعني ان ادارة ترامب لا تريد تخفيض مساهماتها في الميزانية فحسب ، بل انها تريد ان تربح من واردات البعثات بحيث تغطي هذه الواردات مساهماتها في ميزانية الامم المتحدة وتزيد عليها . وبهذه اطريقة تتم ادارة الدولة في عهد ترامب مثل أية شركة أو مؤسسة قائمة على اساس الربح والخسارة ، وليس دولة قائمة على مبادىء القانون الدولي واحترام المواثيق والتعهدات والقرارات الدولية والالتزام بها ، وعلى اساس المساوات في الحقوق والواجبات في تحقيق التعاون الدولي.
كل هذه الضجه التي احدثها قرار الجمعية العامة حول القدس في ادارة ترامب، وهو قرار غير ملزم وليس له سوى قوة التعاطف والاخلاق والمباديء، فماذا لو كان الامر قرارا ملزما؟ اذن لقلب ترامب الدنيا ولن يقعدها. وفي كل الاحوال فان قضية القدس ليست قضية فلسطينية أوعربية حسب ، بل انها قضية اسلامية بالدرجة الاولى ، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين ، واليها اسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أعرج ، فاية قدسية اكبر من ذلك .اذن على المسلمين الفوز في هذا التحدي ، فهل يتحقق ذلك ؟